لطالما احترت عن أسباب تركيز نشطاء الشيعة في السعودية على تعديل مناهج التعليم دون غيرها من الأمور، فالمشكلة – مشكلةُ الطائفية في السعودية – أكبرُ من مشكلة مناهج دراسية «تكفيرية». لربما، لربما ما يبرِزها هو أنها شكَّلت لأغلبِ أبناءِ وبناتِ المجتمعات الشيعية، مِنْ جيليَ على الأقل، لحظةَ تَعَلُّم موقعنا في هذا البلد، أو بالأحرى: موقف هذا البلد، وهذه الدولة، منّا، ونظرتها لنا، ولوجودِنا، كَمُشكلة بحد ذاتها.
لم يُعلِّمْنَا آباؤنا وأمّهاتُنا أيًّا من ذلك، لَمْ نُعلَّم عن مكانتِنا في هذه البِلاد، فتلك المعرفة أخطرُ من أنْ تُمرَّر لأطفالٍ لا يدركون مكامن خطرها، وما قد تُوقِع الطفل والطفلة وأبويهما فيه من مشاكل، فكان الصمتُ الموردَ الرئيس للتعلّم. فالجواب على سؤال «يُبَاه، مكتوب في كتاب التوحيد أنّ إحنا مشركين وَبنروح النار»، الذي يتردد على لسان الأطفال في المدارس الابتدائية، كان دائمًا على منوال: «إيه، مكتوب». سؤالٌ استيضاحي جوابُه التأكيد، تأكيدُ أنَّ هذا هو واقع الحال، أنَّ هذا ما يجب أن تتوقعَه، وأنَّ الأمر لا يتحمّل النقاش.
هذا الصمت، الصمتُ على مضضٍ عمّا هو واضحٌ، دون تفسيره، دونَ تبريرِه، ودون التعليم بِسُبُل مقاومته، كان جزءًا من صمتٍ أوسع.
نتلقّى درسيْن أساسيّين من لحظتين تنعقدُ فيها ألسنتنا في مواجهةِ فرعينِ من فروع أجهزةِ الدولة، يكشفانِ لنا، نحن الأطفال، أبعاد الصمت.
لحظةُ صمتٍ تستمرّ اثنا عشر سنةً أو أكثر، يُخبِرنا فيها موظَّفُ الدولة، مُعلِّم الدين، بَاسِمًا أو عابِسًا، وغالبًا لا هذا ولا ذاك، فنبرتُه تغلب عليها الروتينية وعدم الاكتراث، بأنَّ مصيرنا جهنّم وَبئس المصير، ونحن نعلم أنَّ «أقراننا» في شتى المدارس في البلاد، يتعلَّمون عنا، نحن، العدو، وبعضهم لربما لا يختلفون عن هذا المعلِّم في عدم الاكتراث، والبعض الآخر سنلاقيه يومًا، وحالما يكتشف ما أنت، ما هويّتُك، إنْ لم يتّضح ذلك له بادئًا من اسمك، سيستفرغُ كافة الأسئلة الاستجوابية التي دارت في مخيّلتِه لسنوات عنك، عن «سرّ تكاثُرك»، عن مشكلة وجودِك في بلادِه.
يأتي الدرسُ الآخر من «اللحظة الأمنية»، يتكثَّفُ فيها تاريخٌ لا يُدرَّس في المدارس.
في ليلةٍ من ليالي النصف الثاني من إحدى الرمضانيّاتِ الشتائية، أتذكّر المشي طفلًا مع مسيرةِ عزاء حسينيّ، مع جمعٍ قدره بضع مئات. فجأةً، لَمَحتُ دوريّةَ شرطة عند نهاية الشارع. توقَّفَت الدورية، فتوقَّف الجمع، وتوقَّف بعدهم صوت شَيَّال العزاء. لم أكُن أعلم وقتها أنَّ موقفًا كهذا، قبل عدّة سنوات، في 1400ه تحديدًا، أشعَل انتفاضةً في القطيف، بعد أنْ قتلَت قوى الأمن عددًا من المُعَزِّين.
رغم جهلي بذاك التاريخ الحاضر، كنتُ على استعدادٍ للهرب، ولم أعلم ممَّا تحديدًا، ولا سبب الخوف الخانِق الذي خيَّمَ على المكان. تحرَّكت دورية الشرطة. ظلّ الجمعُ واقفًا لبضع لحظات، حتى اطمأنَّ أنَّ التهديد رحلَ، وإنْ ظلّ حاضرًا في النفوس، فاستمرَّ العزاء.
لحظاتُ المواجهةِ الصامِتة تلك كانت كافيةً لي، ولغيري من الصغار الذين لم يشهدوا الانتفاضة، ولا يذكرون سنوات القمع التعسفي التي تلتها، لأنْ نعرفَ علاقتنا بهذا الجهاز الآخر من أجهزةِ الدولة، وإنْ لم نعرف ما جعلها كذلك.
ها هما جهازاها الأيديولوجي والقمعي، كلاهُما يُفصحِان لك، أنت الطفل، عَن الدولة، عن موقِفها تجاهَك، عن أنَّك لست منها، وهيَ ليست منك.
تتساءل: ما أنت؟ ما الوطن وما الدولة؟ ما الذي يجعلكَ شيئًا، في نظرها، يجب محوُه، أو إخفاؤه، أو لربما إبادتُه؟
لا بدّ أن شيئًا ما قد حصل، تاريخًا ما، قبل أن نولد أو «نوتعي على الدنيا»، لم نكن نعلم، نحن الأطفال، ما هو، ما الغائب والمُغيَّبُ في فراغات الجُمَلِ الناقِصة، وما يتبعها من تلميحاتٍ غامضة، أو إيماءاتٍ ذاعِرة، وكنّا نريد الأجوبة على ما لا يجب أنْ يُسأل عنه.
«هيه، تعالوا» يهمسُ أحمد – بِصوتٍ عالٍ – وهو أحد أقربائنا، تاجِرُ مخدِّرات وَسِلاح. يَعرف أحمد – ونعرف أنا وأصدقائي – أن مجالستَنا إيّاه لن تروق لِأهلنا، فدعانا لجلسةٍ حوارية في إحدى أزقّة الدّيرة المظلِمة. يكبرُ هذا الشابُّ العشريني أكبرَنا بنحو عشر سنوات، وَبدى عليه أنه يعلم أنَّ أغلبنا – والآن قد غدونا مراهِقين – نودّ معرفةَ «ما جرى»، لربما لأن عشرات المراهقين من أمثالِنا سألوه نفس أسئلتنا، وقد أصبح جرّاء ذلك خبيرًا حكواتيًّا.
ابتدأ أحمد حكايته – ونحن نعلم أن روايته ضعيفة – بِسؤالٍ يتّصِل بِنا بماشرةً: «تدروا ليش عمكم مجنون؟»1هل تعلمون لماذا عمّكم مجنون؟، أجبنا جميعًا بالنفي، فعلى الرغم من تواترُ الحديث عن اعتلاله النفسي، لم نجرؤ يومًا على السؤال عن ذلك، لكنّ أحمد منبوذٌ أصلًا، فلا يخافُ استعداء من استعداه.
لم يشهد هو نفسه الانتفاضة، فكانَ ذكرهُ لها عابِرًا: أنَّ العزاء الحسيني كان ممنوعًا في الشوارع، فخرجَ الناس في محرّم ذات عامٍ في مسيرات، فواجههم الحرس الوطني، وقتلَ منهم من قتل، فاشتعلَت انتفاضةٌ رهيبة.
نشأ قريبُنا في السنوات التي تلتها مباشرةً، فشهِد الإخفاء القسري، النهائي للبعض، والمؤقت للبعض الآخر.
كان يذكرُ لنا الأسماء والأعمار، فأخبرنا أن عمَّنا لم يتجاوز عمره السبعة عشر عامًا سنة اعتقالِه، فأُخِذ إلى مبنىً، فيه السرداب يتلو السرداب، عددٌ لا متناهي من السراديب، وفي هذا المبنى المُتَخيَّل تعرَّض عمّنا للجَلْد حتى «ضهره ما بقى فيه جلد. ورَجَّعوه قطَّوه ف الضهرية في الشارع، وشافوه الناس مدُّوده ما يدري فوّين هو حتى».2لم يبقى على ظهره جلد، وعندما خلصوا منه رموه في الشارع وقت الظهيرة، ورآهُ الناس حائرًا لا يعلم أين هو حتى.
سمع أحمد في صِغَره ما تهامسَهُ الناس وقتها عما تعرّض له البعض في السجون، ومنهم – يقول لنا – من كانوا مجانينَ قبل اعتقالهم أساسًا، والبعض الآخر جُنَّ نتيجةً لمختلفِ وسائل التعذيب، ذات أساليب التعذيب التي سيتعرّض لها بعض منّا لاحقًا، من الحبسِ في صندوقٍ صغيرٍ دون ضوءٍ لفترات مطوّلة، والتسهير والجلد لأيّام عدة، وجلساتِ الصعق بالكهرباء، وناهيك عن الضرب المبرح، وَرَوى لنا ما بدى لنا محض خيال وقتها، فتبيّن لنا لاحقًا أن له ما يسنده، وإنْ كان قد جرى واقعًا في فترةِ قمعٍ سابقة للانتفاضة، عن أولئك الذين رُموا من طائرات في وسط الصحراء، فإنْ لم يلاقوا حتفهم من الوقوع، لاقوه من الجوع والضياع.
لكنَّ الصمت لم يستمر إلى الأبد، فسنواتُ ما-قبل 2011م شهدت فترة انفتاحٍ داخليٍّ، فكنّا في المدرسة الثانوية نجمع من زملائنا ما نجهله من خيوط ننسج بها صورةً أكمل لتلك الحكاية، فكنَّا نتبادل الأسئلة لنعرف مَن مِن أقارِبنا اعتُقِل ومن شارك في الانتفاضة ومن لم يشارك، وسرعان ما فاضت الأسئلة لتصلَ الكِبار، والبعض واصل رفضه الإجابة والبعض الآخر قال إنّ الانتفاضة كانت «طيش شباب»، وقليلون أجابونا والابتسامة مرتسمةٌ على وجوههم، فها هم يُستجوَبون، بعد قرابة ثلاثة عقودٍ من الصمت، ولكن ليس المستجوِب يسألهم عن فعلهم بصفته جريمة، بل بصفته عملًا بطوليًّا لم نكن، لولاه، لنتمتّع يومها بهذا القدر البسيط من الحريّة.
حدّثونا عن الفقر، عن الحياة في المرض والموت، عن الخوف، عن دفنِ الكتب في الرمال، وتشبُّث الأمّهات بثيابِ أبنائهن والتوسّل لهم كيلا يخرجوا، عن الإحساس بالظلم والجهل بأسبابه وطرق التصدي له، والخروج إلى الشوارع بحثًا عن السبب والطريق، عن الاعتقال بسببٍ وبلا سبب، عن التعذيب والإدلاء بأي اسمٍ يطرأ على البال لعلّ العذاب يتوقّف، عن الاتساع العشوائي لدائرةِ الاعتقال والتعذيب وتجدّدها، عن الهرب والعيش في المنفى، عن العودة وعن الآمال المعقودة المخذولة.
بحث جيلنا في ذاك الصمت عن صوتٍ له، واستلهم منه روح التحدّي والتضحية، وقلنا لبعضنا ولأنفسنا: لربما نقدر على إكمال ما عجزت الانتفاضةُ الأولى عن تحقيقه، وهجرهُ أصحابُها ويئسوا منه، فخرجنا كما خرجوا، وإنْ في وضعٍ مختلف وزمنٍ مختلف، خرجنا من خوفنا، لإحساسنا بالظلم، وظنَّا منّا أنّنا نعرف علاجاته، فرفعنا أصواتنا، فَقُمِعَت، فرفعناها أكثر، فاشتدّ القمع أكثر، وظننا لوهلةٍ أنّنا إن واكبنا شدّة القمع بشدّة العزيمة فسنفلح، لكنّ العزيمة، مهما اشتدت، مصيرها الانهيار إنْ ضاق الأفق وقلَّت الحيلة، وبعد سنين قليلة خيَّمَ الصمت مرةً أخرى على القطيف، وعنها، لكنّه لم يكن ذاك الصمت السابق، بل هو عصرُ صمتٍ جديد.