يتمّ التطرق إلى الهامش في الدّراسات السّوسيولوجية التونسية أو المهتمّة بالشّأن التّونسي خاصّة بعد الثورة بحثًا عن الدّور الذي لعبه هذا الهامش في تعبئة المجتمع ضدّ النظام السّابق، وبذلك كانت هناك طاقات شعبية فعلية جعلت من انتفاضة 17 ديسمبر ثورة مدنية سلميّة توّجت بإجبار الرئيس السابق على الفرار وسقوط رأس النظام.
وفي مراحل لاحقة اهتمت سوسيولوجيا الانتخابات والهجرة والتطرف العنيف والتعبيرات الفنية الشبابية، كموسيقى الرّاب، بهذا الهامش كما لو أنّ الجميع يعترف بضرورة فهم هذا المجتمع المغيّب لوضع مخطّطات التغيير الاجتماعي والسياسي.
ويحيل مفهوم الهامش جغرافيًّا ومجاليًّا في المقام الأول إلى الولايات الداخلية للجنوب التونسي وَولايات الوسط والشمال الغربي، التي تؤكد كل مؤشرات التنمية حجم الهوّة التي تفصلها عن باقي البلاد، ويحيل أيضًا إلى الأحياء الشعبية الضّخمة المحيطة بالمدن الكبرى وخاصّة تونس العاصمة التي يقطنها الوافدون من المدن الدّاخلية بحثًا عن العمل وهروبًا من الريّف ويأسًا من الحياة في مناطق نائية. ويحيل مفهوم الهامش كذلك إلى كلّ تلك الفئات الهشّة من معطّلين وَعَمَلة ومتقاعدين محدودي الدّخل ومهاجرين وذوي الحاجيات الخصوصية.
وتحرص عدة دراسات سوسويولوجية وتقارير إعلامية وَوَرقات بحثية حول الهجرة غير النظامية أو العنف أو التطرف العنيف على الاشتغال على فرضية العلاقة بين التهميش وهذه الظواهر الجديدة، وهو ما أدى أحيانًا بقصد أو غير قصد إلى استمرار الالتباس بين حقيقة هذا الهامش المركبة وكلّ المشاكل والقضايا السياسية المطروحة، والإمعان في اتهام الهامش بغير وجه حقّ على أنه جغرافيا كل أمراض المجتمع «الأصلي» والرؤية المعيارية السائدة.
وأبعد من ذلك يزيد وصمُ بعض صنّاعِ الرأي «الآخر الهامشي» بتعميق الهوة بين فضاء الهامش وباقي الجسم الاجتماعي، وتعميق درجة الانكسار الاجتماعي الحّاد، وتقوية الإحساس بالقهر والغبن.
من جهته يعيش الهامش (أو الهوامش في تجلياتها المتعددة) الأبعاد المختلفة للتفاوت الاجتماعي والاقتصادي والرمزي والسياسي، وتنتج– هذه الهوامش –سرديتها وتمثّلاتها عن نفسها وعن المجتمع والدّولة والعالم، وتبحث عن حلول للتأقلم. وقد صارت خاصّة بعد 2011 أكثر حماسة وقدرة على فرض نفسها وصوتها بوسائلها الخاصة وغير المعتادة داخل الفضاء العام المادي والافتراضي عبر أشكال الاحتجاج الجديدة وتعبيرات الغضب وموسيقى الرّاب وفن الشارع ومجموعات الألتراس ووسائل الفعل الجماعي الجديدة المتاحة.
ولأن للهامش صوته وكلماته[1] ووصفه لمعيشته اليومية، فهو فاعل مستقل معبّر عن ذاته من خارج الخطاب «الرسمي» والسائد، أي خطاب الدّولة والإعلام، وخطاب المهيمِن الموّجّه والجائر والبارد غير المفهوم، وفي أفضل الأحوال هو عامّ لا يجد فيه المهيمَن عليه صدى لذاته وهويته ومعاناته ودوره، وحتى عندما يأتي الفهم متأخرًا فإنه بلا جدوى، فَلَم توقف «أنا فهمتكم» لِبن علي أيامًا قبل رحيله غضب الهامش حين انفجر في وجه النظام.
انطلاقا من ذلك ومن المواد التي جمعناها من المستجوبين ومن تحليل تدوينات حرة على شبكات التواصل الاجتماعي وعدد من البيانات والمواد الإعلامية، نستعرض هنا دلالات المعاناة والخوف وحتى اللاّمبالاة التي قابل بها الهامش هذا الوباء العالميّ المفاجئ، ثم تجليات ومستويات الهشاشة المركّبة التي يواجه بها المهمشون واقعهم الجديد، قبل أن ننتهي إلى تطلّعات هذه الفئات وانتصاراتها الآنيّة والمتوسّطة المدى.
الوباء المفاجئ: اللاّمبالاة، الخوف، والقلق المضاعف
تلاحظ الدراسات السيكو-سوسيولوجية تغيّرًا في أنماط سلوك الأفراد والجماعات زمن الكوارث والأوبئة، فما كان يعرف «بالعقلانية» التي تحكم السلوك والتصرفات في مسار الحياة اليومية – حتى وإن كان حكمًا هشًّا – تنهار فجأة.
ويسجّل علماء الاجتماع أن إيقاع الحياة اليومية ورتابتها وروتينيّتها المعتادين تتعرض للارتباك، فالحياة اليومية للأفراد والمجتمع تتضمن أنماطًا معروفة من التفاعلات والعلاقات والتوقعات والحلول الجاهزة، ويشكل الحدث الكارثة -أي الوباء- خروجًا حادًّا وصادمًا عن هذا الرّوتين.[2]
يعيش أمير ذو 34 عامًا وهو من ذوي الحاجيات الخصوصية، بمفرده بعد طلاق والديه في مسكن صغير بحي شعبي بمدينة القيروان. يتحدث أمير مفصحًا عن خوفه منذ ظهور المرض وفرض الحجر الصّحي:
منذ بدأ الحديث عن حالة أولى ثم ثانية، بدأت كغيري وجيراني أشعر بالخوف، وامتثلت للدعوة للبقاء في المنزل. لم أغادر البيت منذ 5 أيام. لم أتعوّد على مثل هذه الوحدة؛ كنت أخرج من البيت على الكرسي المتحرك للتزود بالحاجيات الأساسية، أو للذهاب إلى دار الشباب للمشاركة في أنشطة نادي المسرح. كنت أتابع مباريات كرة القدم في المقهى فأنا من عشاق هذه اللعبة والمنتخب الوطني. كنت أتابع دروس تعليم الكبار التي توقفت بدورها. اليوم أشعر بالخوف بل بالفزع وشبح الموت. لا علاقة لي بالعالم الخارجي، لا أحد يزورني بسبب الحظر سوى قريبتي لِمَدِّي ببعض المواد الغذائية.
عزلة أمير عن العالم الخارجي وحياته بين كرسيه المتحرك وسريره للنوم حوّلت حياته إلى سجن مخيف: «ثمة فرق بين واحد ساكن فيلا واحد ساكن في بيت عبارة زنزانة»، ويتساءل: «هل سأستطيع الخروج مرة أخرى من هذا المكان؟ هل سألتقي بأصدقائي في الشارع ودار الشباب؟ هل سأشاهد مرّة أخرى منتخب كرة القدم ونسور قرطاج اللذين كتبت لهم أغنية ترددها الجماهير؟»
مثل هذه الأسئلة تؤرق أمير وتعمّق معاناته في مثل هذه الأيام.
يؤكد أمير على أنّ ما يتمتع به من منحة العائلات المعوزة ومنحة إضافية بـ 50 دينار لمواجهة الظرف الصعب لا تكفي، فهو يعيش في منزل ساعده في إيجاده صديق له. تصل تكلفة كرائه إلى 200 دينار، وهو اليوم مهدّد بالمغادرة لأنّ صاحب المنزل يطالب بشهر ضمان، ومن خلال شهادة أمير ترافق الخصاصة المادية في هذه الأوقات ضوابط التباعد الاجتماعي المفروض، فالعالم الخارجي كان بالنسبة إليه عالم الحياة والأمل رغم الضّيق المادي. يتخذ الشعور بالوحدة والعزلة الاجتماعية لمن يقبعون في قاع الهرم الاجتماعي وزنًا مضاعفًا، فالحجر يفاقم من صعوبة حياة الأفراد ذوي الوضع الطبقي الصعب أصلًا، مقارنة بوضعيات طبقية أخرى تجعل من عزلة الفرد متعة وترفيها في ظلّ توفّر كلّ الضّروريّات.
يعمل جمال ذو 42 عامًا وهو عامل حضيرة من ولاية مدنين – بالمحكمة العقارية بجرجيس. عاش أيامًا عصيبة في الفترة الماضية، فقد التقى قبل أيام من إيقاف العمل ببهو المحكمة بمواطنين قادمين من الخارج وصافحهم وعانقهم لتستقر في أعماقه منذ تلك اللحظة انفعالات الخوف: «لقد انعزلت في غرفتي وتجنبت الوالد لأنه شيخ مريض، ولم أغادر المنزل. خفت أن تكون العدوى قد تسللت إلى جسدي. أنا عامل الحضيرة الفقير تعاظم خوفي حين علمت أن جربة صنّفت بؤرةً وبائية، خاصة أننا لا نملك بنية صحيّة دنيا في ولاية مدنين للتصدي لتفشي الوباء وكثرة المصابين لا قّدر الله».
هذا ما صرّح به جمال، ليؤكد درجة القلق التي يشعر بها منذ ظهور الفيروس وتفشيه. إنَّ درجة التراجيديا التي يعيشها تبيّنُ معنى انسداد الأفق أمام مواطن تونسي مقصيٍ ومهمّشٍ عمّقَ المناخ العام لتفشي الوباء غربته في وطنه؛ كاملُ معنى الحياة صار موضوع سؤال في ذهن جمال وكلماته.[3]
محدّثنا كان قبل جائحة الكورونا ناشطًا في تنسيقية عمال الحضائر بمدنين، ويعيش منذ عشرة سنوات تحت وطأة هذا الشّكل من التشغيل الهشّ، وهو يعبر عن حزنه الكبير كلّما فارق أحد عمال الحضائر الحياة، وقد توفّي مؤخّرا صديقاه المرحوم الجيلاني الرحيمي من قبلي والمرحوم ناجي العياري من سليانة. عبّر عن حزنه بهذه الكلمات في الملتقى الأخير للحركات الاجتماعية: «لو كان موتنا من أجل أَمْرٍ عظيمْ لكنَّا ذهبنا إلى موتنا ضاحكين. ولو كان موتُنا من أجل وقْفة عزٍّ وتحرير أرضٍ وتحريرِ شعْبٍ سبقنا الجميعَ إلى جنَّة المؤمنينْ. ولكنَهمْ . . . قرّروا أن نموتَ ليبقى النِظَام، نموت مصادفةً ككلاب الطريق».
تضاعفَ حجم الألم والخوف لدى جمال، فهو ينظر إلى نفسه مهدّدًا بالموت مرتين كعامل حضيرة قياسًا إلى زملائه المنتمين إلى هذه الفئة الهشة، وهم يواجهون انعدام المساواة في حق الحياة وتهديد المرض والوباء الخفي.
المقولة الشعبية «ميّت حي» تجد كلّ دلالاتها في هذا المقام، فهي تشير إلى حياة بيولوجية خالية من الحياة عند بعض الفئات التي لم يزدها خطر والوباء والحظر الصحي إلا مأساوية وقسوة.
الشعورُ بالخوف والقلق بقدر ما شعورٌ عام ومشترك بين الجميع، بل يمكن القول إنه اليوم ردّ فعل طبيعي لدى الجميع عبر مختلف مجتمعات العالم إلا أنه يبقى تجربةً ذاتية، فكلماتٌ مثل «الخوف» و«القلق» و«التوتر» و«اليأس» ليست سوى تسمياتٍ عامّة لا تنفذ إلى نفس الحال المعيش الشخصي لكل فرد ولكل فئة اجتماعية، فتصبح بمثابة ملصقات نضعها على حالات غير متشابهة. ومن المهم من النّاحية السّوسيولوجية أن ندرك حدّة هذه الفوارق وأن نصَعِّدَ إلى السطح ما هو مخفي ومغيَّب.
لم تقتصر تعبيراتُ المستجوبين على الخوف، بل نجد إلى جانبه نوعًا من القبول بالأمر الواقع. حسين من ذوي الحاجيات الخصوصية وهو قاطن بحي السرور مع عائلته يقتات من بيع الشاي في قفصة يتحدث دون أن يظهر عليه الهلع، بل ويهوّن من خطر هذا الدّاء: «أنا لا أعطي أهمية لهذا الموضوع، الجميع يتكلمون بصخب حول هذه الكورونا، وأنا منشغل بوضعي . . . لا بدّ لي من الخروج للبحث عن الرزق، ‹يلزمني نخرج نلقط زوز فرنك›1يجب أن أخرج للحصول على قوت يومي، ما يقتل كان العمر يا ولدي، يكذب عليك اللي قلّك حاجة أخرى، الشدة في الله وفي حتى حدّ غيرو».
هذا التداخل بين الشعور الديني والإيمان العميق بالقضاء والقدر والحاجة الملحة لاستمرار العمل لتحصيل القوت هو الذي يجعل حسين غير متوتر إزاء تفشي الوباء وليبدو في حالة من السكينة الهادئة أمام الوباء وقلق إزاء وضعه الدنيوي الصّعب.
وفي نفس هذا السياق نجد مظهرًا آخرًا من مظاهر اللاّمبالاة لدى الشباب. سهام من سكان حي التضامن وهي طالبة بقسم الفلسفة بدار المعلمين العليا. لا تخفي سِهام غضبها وعدم تفهمها للشباب من سكان حيّها: «أشعر بالبهتة وأنا أرى شباب الحي في الخارج متجمّعين دون أي احترام لإجراءات التّوقي ومسافة التباعد الاجتماعي. هذا سلوك غير مسؤول»، وتستنتج أنه «يعكس غياب الوعي».
ليس الحيّ الشعبي كتلةً ثقافية صمّاء، فالمسافة بين تمثل سهام (فتاة وطالبة جامعية) لا تتطابق مع تمثّلات شباب حيّها، وهو تباعد اجتماعي يكشف الطبيعة المركّبة للسّلوكيات الفردية داخل الأحياء الشعبية، التي تخترقها بدورها تبايناتُ هوياتٍ فرعية قابلة للتعايش وقابلة للتّصادم. التقابُل بين ما تعبّر عنه سهام من تفهّم للإجراءات الحكومية وسلوك شباب حيّها يؤكد فعلًا أن الحياة اليومية داخل الحيّ لا تخضع لنفس القواعد.
في نفس السّياق، حميدة معّطلة عن العمل من أصحاب الشهائد من معتمدية جدليان من ولاية القصرين. تقول حميدة: «ليس هناك احترام للحظر الصحي الشامل لدى الشباب. المقاهي مفتوحة خلسة والشباب لا يزال ينظم مباريات كرة قدم في البطحاء. خوفي على نفسي وعلى أمي جعلني أتصل بمركز الأمن حتى يطلب من الشباب التزام بيوتهم. لديّ انطباع بأنهم كما لو كانوا يتمنّون المرض ويسعون إلى نشره بين الناس انتقامًا».
القطيعة السلوكية والذهنية الجزئية والحينية بين حميدة وشباب جهتها جعلها تجد في الأمن ملاذًا وتتصالح مع دوره كأمن جمهوري محمول على ممارسة الضبط الاجتماعي على «الخارجين عن القانون»، وهو موقف جديد في خطاب حميدة التي اشتكت سابقًا من سلوك الأمن في تصدّيه للاحتجاجات الاجتماعية التي كانت تشارك فيها. ليس التوّتر بين شباب الجهات الدّاخلية المحرومة والأمن «الحاكم»، كما يسميه الشباب، حالة بنيوية بل متحّولة إلى حدّ أن تمثُّل مفهوم قانون الدّولة بما هو قانون عادل ينشد خير الجميع، وتمثل عنفها كعنف مشروع بالمعنى الفيبري لفرض سلطتها ما يمثُّلان ممكنين هو مما يكسر الصورة النمطية لسوسيولوجيا الهامش كسوسيولوجيا رافضة للدّولة أو هي مجتمع اللا-دولة.
اللاّمبالاة هذا المثير للدهشة، كما تقول حميدة، لا تعود فقط إلى تفسيرات جوهرانية (Essentialiste)، تربط بين ضعف الحس المدني والسلوك العقلاني والهوامش والمقصيين، بل يمكن تأويلها كذلك من خلال ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو «الطبقة المشيئة» في إشارته إلى الفلاحين الرّازخين تحت الهيمنة إلى حدّ يفقدون فيه القدرة على إنتاج تصوراتهم لهوياتهم وللعالم الاجتماعي، إنهم لا يتكلمون بل يُتَكلّم عنهم، نحن أمام شباب لا يكاد ينتج سوى اللّامعنى، أحيانًا، لغياب رؤية ومرجع، فهو لم يتعوّد على مَوْضَعَةِ ذاتيّته،[4] مسكون بالضجر من كلّ شيء، كما يمكن تأويله أيضا بغياب التناغم (la dissonance) بين الخطاب الرسمي وانفعالات وأحاسيس الفاعلين وهو مشكل تاريخي في علاقة الدّولة الأبوية بالمجتمع، وضعف الثقة في النخب السياسية.
نحن إذا أمام تمثل اجتماعي آخر للوباء داخل مجتمع الهامش، فالخوف والقلق يتعايش مع عدم المبالاة ومع التسليم بالقدر. هذا التداخل هو في حدّ ذاته تجلّ للعناصر المكونة لسوسيولوجيا الهامش، فالتديّن والعدمية وضعف درجة الوعي بالمخاطر وحس المغامرة تتعايش مع الفقر والشعور بالعزلة والخوف المحبط. في هذا المعنى تتأكد للباحث فضائل وضع الواقع الاجتماعي المجهري كموضع اهتمام لتجاوز الأحكام السائدة والتعميمات السريعة.
عبّر منصف من دوار الهوايدية عن سلوك آخر مغاير للأهالي في المناطق الريفية: «نحن نعيش الآن تقريبًا 40 عائلة هنا في ريف طبرقة. نشعر أن الوباء بعيد عن ريفنا الجميل. لقد تعوّدنا على تأمين حاجياتنا الغذائية من منتوج فِلاحتنا، ونستطيع مواصلة الحياة في هدوء إذ يبدو المشكل الأكبر في المدن الكبرى وفي العاصمة حيث الاكتظاظ والازدحام».
تنقلب صورة الهامش زمن الوباء فيما يقرّه منصف من سكينة آمنة تستطيع أن تعيشها قرية فلاحية من منتوجها الفلاحي ومن حفاظ أهلها على عاداتهم التقليدية وتضامنهم الأهلي يطرح أهمية بقاء الناس في أريافهم وتمكينهم من مقومات الحياة على أرضها لا تهديده للحد من الهجرة الدّاخلية نحو المدن. وتشير العديد من الدراسات والإحصائيات في العالم إلى أن المدن الكبرى والمكتظة هي الأكثر تضرّرًا، وأنَّ تشتّت السكان في الأرياف يحدّ من العدوى، من ذلك مثال إيطاليا حيث منطقة لومبارديا المتطورة اقتصاديًا والمفتوحة على الصين وعلى العالم هي التي انطلق منها الوباء وتحصي أكبر عدد من الضحايا.
خوف سكان الأرياف والأحياء والمناطق المعزولة هو بالمعنى السيكولوجي العام خوفٌ مشروع، لكنّه مع ما نلمسه من تعدد المواقف إزاء الأزمة الحالية وإجراءات التوقي منها واحتمالات الخروج منها يتحوّل المشكل من تعريف الخوف كانفعالٍ (حزين) للحماية الذاتية إلى كيف نعرّفه في علاقة باجتماعية الفرد، فالعلاقة بين الخوف والقلق والهلع أحيانًا تتحدد في الرّبط مع الانفعالات والمشاعر المشتركة أيضًا وليس في الزّوايا المغلقة للنّفس الفردية العميقة والمنعزلة؛ فالمسألة هي، بالتعبير الفرويدي، رهينة مجموع أشكال التلبية الواقعية التي يمكن أن يترقبها كلّ واحد من العالم الخارجي،[5] التي تجعل ضرورة تكيف الأفراد مع حالة الهلع الجماعي غير متماثلة.
المهاجرون الأفارقة من جنوب الصحراء؛ لا عنصرية بعد اليوم؟
لم تعد تونس منذ سنوات بلد عبور بالنسبة للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء، بل صارت بلد إقامة واستقرار فيعيش بيننا إلى جانب الطلبة المتمتعين بحقوق الإقامة القانونية عدد هام من المهاجرين غير النظاميين من عدة دول إفريقية، دخلوا عالم الشغل الهش في قطاعات المقاهي والمطاعم والحراسة والبناء والفلاحة الموسمية والإعانة المنزلية . . . لم تكن حياتهم سهلة قبل الأزمة بسبب ظروفهم الاقتصادية ووضعهم غير القانوني بموجب القوانين الحالية أولًا، وكذلك بسبب ممارسات عنصرية تستهدفهم تصل إلى حدّ العنف.
وكغيرهم من الفئات الهشة بعثرت أزمة كورونا التوازن الهش الذي كان يعيش وِفقه المهاجرون وينظمون وِفْقه حياتهم اليومية والعائلية وحتى الروحية بتوفير فضاءات خاصة وتحويلها إلى كنائس للصلاة. وانخرط – هؤلاء المهاجرين–في الدورة الاقتصادية دون حقوق كاملة، جعلتهم في بعض الأحياء، خاصة النساء منهم، في وضعيات تجارة بالبشر.[6]
أيوب طالب لجوء سوداني يعيش في تونس منذ أقل من سنة بعد أن دخلها من ليبيا برًّا على إثر توّتر الأوضاع الأمنية. كان يعمل في قطاع البناء (المرمّة) بأجر لا يتجاوز 25 دينار يوميًا ودون أي تغطية صحيّة أو حق في راحة أسبوعية أو توقف عن العمل، ويعيش اليوم مع أربعة وعشرين شخصًا من طالبي اللجوء السودانيين والصوماليين والإرتريين في أحد الفنادق الصغيرة في العاصمة، ويتقاسمون نفس الفضاء المشترك وجناح الاستحمام. يقول أيوب في وصفه لوضعه اليوم: «بعد فقدان عملي مع ظهور الوباء، أصبحت أشعر من يوم إلى آخر بالخوف والقلق من المرض والعدوى ومن طول مدّة البطالة، كما أنّني قلق على أهلي لأنّني لا أملك المال لإرساله إليهم الآن في مثل هذا الظرف».
يضيف أيوب أنه لم يتمكن من العمل في أحد ورشات إصلاح السيارات، وهو مجال اختصاصه، فهو حامل لديبلوم مهني في ميكانيكا السيارات، وذلك بسبب قوانين الشغل ورفض أصحاب الورش انتدابه للعمل: «كلّ ما كنت أخطط له وأسعى إليه من تقديم ملف هجرة إلى كندا أو أي بلد أوروبي صار الآن بعيد المنال . . . كلّ أحلامي تبخّرت».
ليست وضعية أيوب المسكون اليوم بالخوف على نفسه وقلقه على أهله ويأسه من المستقبل سوى عينة من وضع صعب يعيشه اللاجئون والمهاجرون في تونس منذ مدّة، واليوم تحت تأثير الأزمة الشاملة تزداد أوضاعهم سوءًا.
يؤكد بلامّاسي، وهو مهاجر من الكوت ديفوار (ساحل العاج) وناشط في الوسط الجمعياتي للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصّحراء، ذلك فيقول: «الأزمة الحالية لمعظم المهاجرين اقتصادية وصحية وإنسانية. نحن لم نسجّل أي حالة معلنة للإصابة بالمرض في صفوف المهاجرين، ولكن التّوقف عن العمل بالنسبة إلى الجميع يمثّل معضلة، فالجميع يعمل دون عقود عمل قانونية حامية للحقوق في مثل هذه الوضعيات. لدينا مشكل كبير في ضمان بقائنا في منازلنا إن لم نقدر على دفع معاليم كرائها آخر كلّ شهر والفترة قد تطول».
يضيف بلاماسي ليوضّح لنا خصوصية معاناة المهاجرات من النساء اليوم: «عدد كبير من النساء العاملات في المطاعم والمقاهي والمعينات المنزليات الآن في البيوت، في المرحلة الأخيرة تم التخلي عن خدماتهن لأن العائلات التونسية ملازمة لبيوتها ولا تحتاجهن، مع وجود حرص عند العائلات على تجنّب أيّة علاقة بالعالم الخارجي والخوف من أن تحمل المعينة المنزلية الفيروس إلى البيت».
هذه الشهادة تطرح مشكلا إنسانيّا وحقوقيّا هيكليّا مرتبطا بعدد هام من المعينات المنزليات ممّن كنّ عرضة للتّلاعب واستغلال شبكات جلب للنساء من عدة دول إفريقية للعمل بالمنازل، وقد كان هذا العالم مغلقا ومخفيًّا قلَّ أن كشفنا أسراره بصورة علنيّة واسعة، واليوم يصبح بالضرورة عالمًا مكشوفًا، ويطرح على المجتمع الكلّي أسئلةً لا بدّ من مواجهتها.
وفي نفس السياق يضيف بلاماسي: «سيكون لنا في الأيام القادمة مشكل صحّي، خاصة مع النساء الحوامل والمهاجرين المصابين بأمراض مزمنة الذين يحتاجون إلى الدّواء ولا يملكون مدّخرات كافية لمواجهة المرحلة القادمة».
هذه الشهادة المهمّة تضع مجتمعنا أمام هشاشة الأوضاع الصعبة للمهاجرين اللذين يعيشون بيننا، فمع موجات الاعتداءات العنصرية التي عرفناها سابقًا، وأشكال التشغيل الهشة، ورفض حقوق الإقامة القانونية، يضاف اليوم تهديد وباء كورونا.
تؤكد كلّ المنظمات الحقوقية العالمية ونشطاء المجتمعات المدنية ومنبهي الرأي العام على أهمية العناية الخاصة بالمهاجرين واللاجئين، ووجوب حمايتهم بالنظر إلى أوضاعهم الإنسانية القاسية.[7] وقد جاءت الإجراءات الحكومية الإيجابية الأخيرة بفائدة للمهاجرين، بعد تنسيق وتشاور بنّاء بين المجتمع المدني وَوزارة المجتمع المدني وحقوق الإنسان لتجسيد مدى التضامن الممكن مع هذه الفئة الاجتماعية الهشة على أرضية حقوقية إنسانية.
ويبقى الدّرس الأهم من الناحية الأنثروبولوجية والسوسيولوجية هو الوعي الحاد، بعد التصويت على قانون ضد التمييز العنصري كتطور تشريعي مهمّ في الترسانة القانونية لتونس ما بعد الثورة،[8] هو انخفاض منسوب العنصرية اتجاه الأفارقة من جنوب الصحراء وظهور مبادرات تضامنية عدة في اتجاههم.
هكذا نستخلص أن استراتيجيات استبعاد الهامش من الفضاء العمومي في مرحلة ما بعد الاستبداد غير ممكنة لأن فاعلية هذا الهامش الاحتجاجية والتعبوية من أجل التغيير الفعلي لأوضاعه تَتَعزّز، وكلما تملّك المهمشون وعيهم بذواتهم وحدّدوا خصومهم وتنظموا كقوة ضغط فستذهب الديمقراطية بعيدًا في الوعي الجماعي، وستزداد رسوخًا لا باعتبارها فقط ديمقراطية سياسية بل كذلك ديمقراطية اجتماعية تطرح مسألة دمقرطة إنتاج الثروة ودمقرطة توزيعها.
هذا المخاض الذي يعتمل محليًا لا ينفصل في الدّلالة والأفق عن المخاض الذي تشهده اليوم وبشكل متسارع سوسيولوجيات الهامش في كلّ القارّات. وإنَّ غدًا لناظره قريب.
الملاحظات
[1] Didier Lapeyronnie، Ghetto urbain : Ségrégation، violence، pauvreté en France aujourd’hui، avec Laurent Courtois (Paris : R. Laffont،2008)، p. 58.
[2] Dans le balancement inexorable des histoires humaines، c’est le sentiment du tragique de la vie qui، à nouveau، tend à prévaloir. Le dramatique،، est résolument optimiste. Le tragique est aporique، c’est-à-dire sans solution. La vie est ce qu’elle est”
[4] Pierre Bourdieu le bal des célibataires crise de la société paysanne en Béran seuil 2002 ; ou aussi la notion de ‘’ l’homme blasé ‘’ chez G simmel du secret comme expression de la réactivité sociale ;in sociologie de l’expérience du monde moderne Paris Meriseirs Kleinien 1986 cité par.
محسن بوعزيزي التعبيرات الاجتماعية والمجال الاجتماعي (سوسيولوجيا اللامبالاة ص 154-160) الدار العربية للكتاب 2009.
[5] فرويد قلق في الحضارة، ترجمة شرف الدين البوغديري. منشورات ونجهاد للتنوير تونس 2008: الشبقي الذي يولي أهمية للعلاقات مع الآخر والنرجسي والعملي لا يقيمون علاقات مع الواقع الموضوعي بنفس الطريقة، وهم لا يواجهون كذلك المصادر الثلاث لمعاناة البشرية بنفس الطريقة، وهي قساوة الطبيعة وقابلية جسدنا للانقراض، وقصور الاجراءات المخصّصة لتنظيم علاقات الناس ببعضهم سواء في العائلة والمجتمع والدّولة.
[6] https://ftdes.net/rapports/femmessubsahariennes.pdf
العنف المسلط على المهاجرات من جنوب الصحراء دراسة ميدانية هاجر عرايسية
[7] https://www.unicef.fr/article/covid-19-les-populations-de-refugies-de-migrants-et-de-personnes-deplacees-pourraient-etre-014 https://www.ohchr.org//NewsEvents (https://www.unicef./article/covid-19-https://www.ohchr.org/NewsEvents
[8] صدر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية قانـون أساسي عدد 50 لسنة 2018 مؤرخ في 23 اكتوبر 2018 يجرّم التمييز العنصري ويعاقب عليه بالسجن