تأتي توقعات الركود العالمي فيما بقي من سنة 2020م بأعداد كبيرة من اقتصاديي التيار السائد – إذ أصبح من المجمع عليه الآن أنه سيكون هناك انكماش [تقلص] في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي العالمي في ربعين متتاليين على الأقل (الربع الأول والربع الثاني)، في أعقاب تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) و«الإغلاق» الهادف للتصدي له.
يعتقد معهد التمويل الدولي، وهو الهيئة البحثية للبنوك الدولية، أنّ الولايات المتحدة سيتقلص ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 10٪ بحلول نهاية يونيو/جوان، وأوروبا بنسبة 18٪.يفترض الاقتصاديون في دويتشه بنك (البنك الألماني) أن النصف الأول من عام 2020م سيشهد أسوء ركود منذ الثلاثينيات، وقالوا: «نتوقع أن تتخطى الانخفاضات الفصلية في نمو الناتج المحلي الإجمالي بشكل فعلي كل الأرقام المسجَّلة منذ فترة الحرب العالمية الثانية على الأقل». وتعتقد مؤسسة أكسفورد إيكونوميكس أن الاقتصاد الأمريكي سيتقلص هذا العام بمعدل قدره 12٪ بحلول نهاية يونيو/جوان.
لكن اقتصاديي التيار السائد لا يزالون متفائلين، فالجميع يتوقع انتعاشًا سريعًا في النصف الثاني من عام 2020م، وتذهب الحجة إلى أن الصين في تعافٍ سريعٍ الآن، وبحلول سبتمبر سترتد أغلب الاقتصادات الرأسمالية بمجرد أن تهدأ الجائحة أو تتمكن السلطات من احتوائه (كما يبدو عليه الحال في الصين وكوريا واليابان).
ولكن حتى لو حصل هذا السيناريو المتفائل، فإن الضربة التي أصابت الاقتصادات ستعني عدم حصول أي نمو على الإطلاق على مستوى العالم طوال العام، فعام 2019م شهد أصلًا تباطؤًا كبيرًا يشابه ما أطلق عليه صندوق النقد الدولي «سرعة الانهيار» بنسبة 2.5٪، وكان الاقتصاد الصيني، الذي تضرر بشدة من الفيروس والإغلاق، يتباطأ حتى قبل أزمة فيروس كورونا، وهذا يعني أن حتى خطة التحفيز الاقتصادي القوي في الصين ستعاني في محاولتها تعزيز النمو العالمي.
وهذه هي النقطة التي أود التأكيد عليها: يكثر الحديث عن التدابير المالية والنقدية للتخفيف من الركود في الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة، ولكن يوجد تجاهل عن الضربة الموجعة للمليارات من الناس في ما يسمى بـ «الجنوب العالمي». ففي العديد من اقتصاداتها الأكبر، الركود الاقتصادي قائمٌ أصلًا: المكسيك والأرجنتين وجنوب إفريقيا، وغيرها. والآن فالضربة المزدوجة لانهيار أسعار السلع الأساسية، وخاصة الطاقة، ستوجع العديد من اقتصادات «جنوب العالمي» التي تعتمد على السلع الأساسية باعتبارها صادراتها الرئيسية، وهو أكبر انخفاض في أسعار السلع منذ عام 1986م.
سعر برميل النفط الخام بالدولار:
وقد قامت أصلًا هجرة لرأس المال من هذه البلدان، وكان جزء من المواطنين الأغنياء يُخرِجون أموالهم جزئيًا، وكذلكَ جزءٌ من المستثمرين الأجانب. والتدفق الناتج عن كوفيد-19 أسرع بكثير من أي وقت مضى. تراجع «الأسواق الناشئة» قائمٌ أصلًا وستزداد حدته.
ارتفعت ديون الشركات في كل مكان خلال «التوسع الاقتصادي» الطويل والضعيف بعد عام 2009م:
وكان ارتفاع الدين أسرع في ما يسمى الاقتصادات النامية. وكما يشير الاقتصاديون في البنك الدولي، فإن «معظم الزيادة في الديون منذ عام 2010م كانت في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، التي شهدت ارتفاع ديونها من نسبة 54 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي إلى مستوى قياسي يبلغ حوالي 170٪ من الناتج المحلي الإجمالي في 2018م. كانت هذه الزيادة واسعة النطاق، حيث أثرت على حوالي 80٪ من الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية».
الدَّين في السوق الناشئة والاقتصادات النامية، 1970-2018:
ملاحظة: تم حساب الحاصل باستخدام حجم الناتج المحلي الإجمالي بالدولار الأمريكي والذي يظهر كمتوسط متحرك لمدة 3 سنوات. تمثل الخطوط العمودية الرمادية بداية موجات الديون في 1970 و1990 و2002 و2010م. وتشير الخطوط المتقطعة إلى الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، باستثناء الصين.
وكما يقول رجال البنك الدولي، «على الرغم من الارتفاع الحاد في الديون، فإن النمو في هذه الاقتصادات خيب الآمال بشكل متكرر، وهي تواجه آفاق نمو أضعف في اقتصاد عالمي هش. بالإضافة إلى تراكم الديون السريع، فقد تراكمت لديها نقاط ضعف أخرى، مثل تزايد العجز المالي وعجز الحسابات الجارية والتكوين الأكثر خطورة للديون».
النمو والدَّين:
ملاحظة: إجمالي الدين (كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي) ونمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (الحجم المرجح للناتج المحلي الإجمالي بأسعار وأسعار الصرف لعام 2010م) في الاقتصادات النامية للأسواق الناشئة.
إن معظم هذا الدين مقوم بالدولار الأمريكي، ومع ارتفاع قيمة العملة المهيمنة باعتبارها «ملاذً آمنًا»، فإن عبء السداد سيزداد على اقتصادات «الجنوب» التي يُهيْمِنُ عليها. إن مستوى ديون «العملة الصعبة» لشركات الأسواق الناشئة أعلى بكثير الآن مما كان عليه في عام 2008م. فوفقًا لتقرير الاستقرار المالي الصادر عن صندوق النقد الدولي في أكتوبر 2019م، زاد متوسط الدين الخارجي للبلدان الناشئة والبلدان متوسطة الدخل من 100%من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2008م إلى 160% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2019م.
وليس هناك مجال كبير لتعزيز الإنفاق الحكومي للتخفيف من حدة الضربة، فالدول «النامية» في وضع أضعف بكثير مقارنة بالأزمة المالية العالمية في 2008–2009م. في عام 2007م، كان لدى 40 دولة من الأسواق الناشئة والبلدان المتوسطة الدخل فائض مالي حكومي مشترك مجمع يساوي 0.3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وفقًا لصندوق النقد الدولي، وفي العام الماضي، سجلت هذه البلدان عجزًا ماليًا بنسبة 4.9 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. فقد ارتفع عجز الحكومة في بلدان شرق المتوسط من 0.7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2007م إلى 5.8 بالمئة في المائة في عام 2019م؛ وفي أمريكا اللاتينية، ارتفعت من 1.2% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 4.9%؛ وانتقلت الأسواق الناشئة الأوروبية من فائض قدره 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي إلى عجز بنسبة 1 بالمئة.
وتحمل الجائحة خطر خلق كساد عالمي. إن الإعلان الأخير لصندوق النقد الدولي عن استعداده لتعبئة ما يصل إلى تريليون دولار من الإقراض لن يحقق الكثير. أولاً، يمكن نشر 50 مليار دولار فقط في الأسواق الناشئة، و10 مليار دولار فقط للدول الأعضاء ذات الدخل المنخفض. وفي الوقت نفسه، وصلت تدفقات رأس المال الخارجة من الأسواق الناشئة منذ بداية الوباء أصلًا إلى أكثر من 50 مليار دولار.
سيكون التأثير من الركود العالمي وانهيار أسعار السلع على مليارات الأشخاص شديدًا. نشرت منظمة العمل الدولية (ILO) للتو: فيروس كوفيد-19 وعالم العمل: الآثار والاستجابات (wcms_738753).
وتشير التقديرات الأولية لمنظمة العمل الدولية إلى ارتفاع كبير في البطالة والعمالة المنقوصة في أعقاب الفيروس، وتشير التقديرات الأولية لمنظمة العمل الدولية إلى ارتفاع في البطالة العالمية بين 5.3 مليون (السيناريو «الأدنى») و24.7 مليون نسمة (السيناريو «الأعلى») على قاعدة أساسية تبلغ 188 مليون نسمة في عام 2019م. يشير السيناريو «المتوسط» إلى زيادة قدرها 13 مليون (7.4 مليون في البلدان عالية الدخل)، ووفق المنظمة، «على الرغم من أن هذه التقديرات لا تزال غير بعيدة عن التأكيد، فجميع الأرقام توحي بارتفاع كبير في البطالة العالمية». وعلى سبيل المقارنة، أدت الأزمة المالية العالمية في 2008-2009م إلى زيادة البطالة بمقدار 22 مليون نسمة.
ومن المتوقع أن تزداد البطالة على نطاق واسع. وكما شهدنا في الأزمات السابقة، من المرجح أن تترجم صدمة الطلب على العمال إلى تعديلات منحدرة كبيرة في الأجور وساعات العمل. يمكن أن تصل خسارة دخل العمالة إلى 3.4 تريليون دولار! وحسب منظمة العمل الدولية: «عند هذه النقطة، يشير تقدير أولي (حتى 10 مارس) إلى أن العمال المصابين بالفيروس قد فقدوا حتى الآن ما يقرب من 30,000 شهر عمل، ويترتب على ذلك من فقدان الدخل (للعمال غير المحميين). تنطوي آثار العمالة على خسائر كبيرة في الدخل للعمال. فمن المتوقع أن تتراوح الخسائر الإجمالية في دخل العمل بين 860 و 3,4403 مليار دولار أمريكي. وستترجم خسارة دخل العمل إلى انخفاض استهلاك السلع والخدمات، وهو ما يضر باستمرارية الأعمال ويضمن مرونة الاقتصادات».
ومن المرجح أن يزيد العمّال الفقراء بشكل ملحوظ. وسوف يدمّر الضغطُ على الدخل، الناتج عن انخفاض النشاط الاقتصاديّ، حياةَ العمال المتاخمين لخط الفقر أو تحته. تشير تأثيرات نمو الفيروس المستخدمة في تقديرات البطالة المذكورة أعلاه إلى وجود 8.8 مليون شخص إضافي من العمال الفقراء حول العالم عما كان مقدرًا في الأصل (أي انخفاض عام قدره 5.2 مليون عامل فقير في عام 2020 مقارنة بانخفاض 14 مليون مقدرًا قبل كوفيد-19). في ظل السيناريوهات المتوسطة والعالية، سيكون هناك ما بين 20.1 مليون و35.0 مليون شخص في عامل فقير عما كان عليه قبل تقدير كوفيد-19 لعام 2020م.
هناك «شبكات أمان» قليلة أو معدومة في هذه البلدان. ستكون الضربة التي يتعرض لها العاملون في البلدان الرأسمالية المتقدمة من الركود العالمي، حتى لو كانت قصيرة الأجل، شديدة، خاصة بعد سنوات من التقشف وقمع الأجور. لكن بالنسبة للمليارات في الدول «النامية»، ستكون مدمرة.
المصدر: مدوّنة مايكل روبرتس