اندفع العنف ضد المرأة، أو ما يمكن تسميته بالعنف الجندري،1الجندر (gender): هي الأدوار والفروقات الاجتماعية التي تظهر تحت مصطلح الذكورة و الأنوثة، وترتكز في المجتمع على نظام من الثنائيات المتعارضة بين النوعين، مثل: سيادة الرجل ضد انقياد المرأة، وعقلانية الرجل ضد عاطفية المرأة، وقوة الرجل ضد ضعف المرأة.
يسعى مفهوم الجندر إلى تحليل النظرية التي تقول أن الفروقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة قد تم التلاعب بحقيقتها للحفاظ على نظام السلطة الأبوية داخل المجتمع، وخلْق شعور جماعي بين النساء بأن الأدوار الوحيدة المناسبة «لطبيعتهن» هي أدوارهن في الحيز الخاص، كربات بيوت أي الأدوار الانجابية. (المصدر: ويكي جندر.)
إلى وسط ساحة النقاش والرأي العام والتعبئة في الوطن العربي لفترة ليست بالقصيرة العام الماضي. حدث ذلك بشكلٍ أوضح بعد جريمة قتل الشّابة الفلسطينية إسراء غريب، وهي لم تكن إلّا آخر حلقة في تصاعد تدريجي على مر العقود الماضية تخللته قفزاتٌ في الوعي، اتخذت قضايا معينة محورًا للنقاش والتعبئة فيها، مثل قضية «فتاة القطيف» في السعودية.2قضية «فتاة القطيف»: تعرضت فتاة في مدينة القطيف شرقي السعودية للاغتصاب من مجموعة من الرجال عام 2006 م. وعند بلاغها عمّا تعرضت له هي والرجل الذي كان معها من اختطاف واغتصاب، تعاطي القضاء معها كمجرمة بتهمة «الخلوة غير الشرعية»، لأن الرجل الذي اختطفت معه لم يكن من محارمها. أحدثت القضية ضجة داخليًا وخارجيًا نتيجة حكم القضاء عليها بالجلد 90 جلدة بادئًا ومن ثم مضاعفتها إلى 200 جلدة. وبعد تواصلها مع منظمات حقوقية في الخارج وما أنتجه ذلك من ضغط دولي، مثل المظاهرات التضامنية في الهند، أصدر الملك عنها عفوًا عام 2009 م.
تحدثت بعد الإفراج عنها عما تلقته من معاملة، حيث قالت: «حتى القاضي تعاطى معي وكأني مجرمة ولست بضحية»، وأضافت أنَّ «الكل ينظر الي على انني كنت المخطئة في ما حصل، لم اتمكن حتى من اكمال دراستي، كل ما كنت اريده هو الموت، لقد حاولت الانتحار مرتين»، وعن الأذى الذي تعرضت له من أسرتها ومحاولة أخيها قتلها، ودعت هي وزوجها لإعادة النظر في القوانين لأن «الأحكام الصادرة قد تمنح مبررًا للمجرمين للاغتصاب».
تتزامن هذه التعبئة الأخيرة مع موجةٍ أعم من التعبئة النسوية في مختلف بقاع المعمورة، مثل: الحركة النسوية الجماهيرية في إسبانيا التي ربطت الإضرابات العمّالية بإضرابات الأعمال المنزلية والرعائية، والحملة النسوية الناجزة في إيرلندا والمستمرة في الأرجنتين لأجل الاستقلالية الجسدية والحقوق الإنجابية، والتنظيمات النسوية في تشيلي التي أوصلت جرائم قتل النساء (femicide) إلى مركز الحراك الجماهيري، وحركة #أنا_أيضًا (#MeToo) في الولايات المتحدة الأمريكية ضد الاغتصاب والاعتداء الجنسي، وهي ظاهرة سرعان ما تفشّت شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، وغيرها من الحركات التي لا يسعنا ذكرها هنا.
في البلدان العربية، تصدى النقاش والتعبئة، في هذه اللحظة، للتواطؤ القانوني والمجتمعي مع مرتكبيْ ما يسمى بـ «جرائم الشرف»، وقدّم مقترحات – أغلبها كرر النشطاء الدعوة إليها لعقود – لتغيير القوانين، وشجب التواطؤ والشرعنة المجتمعية لهذه الجرائم. لكن الشيء الذي ما زل هنالك شحٌّ فيه رغم حاجتنا الملحّة إليه هو الأسس المعرفية لكيفية إحداث التغيير على المستوى الاجتماعي الصغير، وبناء شبكة علاقات تضامنية وتعاونية خارج المؤسسات الرسمية لمساعدة المعانِيات والنجاة من التعنيف المُجَنْدَر والتعنيف الأسري.
فمع تخاذل وتورّط الأنظمة القانونية للدول في هذا العنف، وتواطؤ حتى من يسمّون أنفسهم بالأخصائيين والأخصائيات الأسريّات فيه بتطبيعهم «صبر المرأة» كحلٍ سحري وحيد وأعدل لمشاكل التعنيف، مطالبين الضحية بذلك بتحمّل كل ما يحل عليها من عذاب والعيش في جحيمٍ دنيوي لأجل «حماية نسيج الأسرة»، لا سبيل لنا الآن إلّا بالعمل على المستوى الشخصي والاجتماعي الصغير، لعل ذلك يخلق الأسس لتغييرٍ قيمي وثقافي واجتماعي أكبر.
وهنا تكمن أهمية كتاب لندي بانكروفت، لماذا يفعل ذلك؟: نظرة داخل عقول الرجال العصبيين والمتحكّمين، فهو وإن كان يتطرق إلى الجوانب الشخصية والمباشرة من التعنيف وأسسه الفكرية في سياق الولايات المتحدة الأمريكية في العقدين الأخيرين من الألفية السابقة، مما يعني تخصصه بأوضاع وبيئة اجتماعية محددة، فذلك – كما يشير بانكروفت نفسه – لا يقلل من ارتباط هذا الكتاب بغير المقيمات والمقيمين في هذا البلد، إذن أنَّ المشترَكات بين المعنِّفين المنتمين لمختلف الثقافات أكثر من الفروقات بينهم.
ولا يقلل من أهمية هذا الكتاب عدم اختصاصه بمعالجة الأسس النظرية الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأيديولوجية أو السياسية لاضطهاد المرأة والاضطهاد الجندري ولا الاكتفاء بمعالجة تمظهر ذلك في الحياة اليومية، فمع وفرة المقالات والكتب التي تتطرق لتلك الأسس، هنالك شحٌّ في النصوص التي تعالج الجوانب الشخصية والمباشرة على نحوٍ يساعدنا على اتخاذ خطواتٍ عملية في التصدي لذلك.
قد يفيدنا هذا الكتاب من ناحيتين، فمن ناحية أولى، يمكننا الكتاب من مساعدة أنفسنا والمقرّباتِ والمقرَّبين منّا في التصدي للتعنيف. ومن ناحية أخرى، يعلّمنا أنه رغم التقدم المُحرَز في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان نتيجة الحركات النسوية المتوالية، ما تزال منظومة العلاقات الأبوية قائمة، وإنْ بأشكال ودرجات متباينة.
يشير بانكروفت مثلًا إلى تعرّض ما بين مليوني وأربعة ملايين امرأة سنويًا للاعتداء من شريكها، وهذه الاعتداءات هي المسبب رقم واحد لإصابات النساء من الفئة العمرية 15-44، وواحدة من كل ثلاث نساء تتعرض للعنف في العلاقات الحميمية في مرحلة من حياتها، وغيرها من الإحصائيات التي تبين استمرار التعنيف والقمع. قد تدل هذه الإحصائيات المتعلقة بالعلاقات الحميمية والأسرية على نجاة المنظومة الأبوية في سائر جوانب الحياة القانونية والاجتماعية والعملية والشخصية الأخرى بالرغم من تعاقُب الهجمات النسوية عليها.
يستخدم حماةُ المنظومة الأبوية في مجتمعاتنا العربية هذه الإحصائيات والحقائق كتبرير يخلينا من مسؤولية العمل على التغيير أو كحجة ضد دعوات التغيير، بوصف كل شكوى من هذا العنف السائد أو نقده أو العمل النسوي على إنهائه في مجتمعاتنا بـ «الدراما»، وكأنما تفشّي هذا العنف الوحشي في أماكن أخرى يقلّل من أهمية التصدي له في بلادنا.
المصادفة هي أن التَّتْفِيه كسلاح أبوي ضد الحركات النسوية في البلدان العربية هو نفس السلاح الذي يستخدمه حماةُ المنظومة الأبوية في بلدان أوروبا وأمريكا الشمالية، نفس الكلمات ونفس الأوصاف ونفس المبررات، اللهم باختلاف وحيد هو استشهادهم بوضع النساء «الشرقيات» كدليلٍ على «ترف» و«تفاهة» النسويات «الغربيات»، أي أنَّ قمع وَظلم الواحدة يُبرَّر ويشرعَن بقمع وظلم الأخرى.
لا يصعب الرد على هذه الحجج الواهية، فتوفر هذه الإحصائيات في المجتمعات الأخرى من الأساس دلالة على درجة من التقدم. بعبارة أخرى، وضعنا بلغ من السوء حدًّا لا يتيح لنا الخروج بأي إحصائيات ولو تقريبية لتفشّي وتغلغل هذه المشاكل، وليس ذلك نتيجة افتقارٍ للتقنيات التي تتيح ذلك (على الأقل ليس في كل بلداننا)، بل نتيجةً لتوازن القوى الاجتماعية الذي يفرض الصمت المطبق على هذه الجوانب من الحياة الاجتماعية.
لكن «الرد» على حماة الأبوية ليس كافيًا؛ نحن بحاجة إلى فهم معاني هذه الحقائق وتحليلها لحاجاتنا وأغراضنا الخاصة.
فواقع بلدان أوروبا وأمريكا الشمالية يدل على أنَّ محاولتنا رصف أسس اجتماعية وقانونية واقتصادية شبيهة لما ساهمت في رصفه الحركات النسوية هناك لا يلبّي الحاجة أبدًا، بل يدل على أننا بحاجة لتجاوز الأطر الجاهزة للعمل النسوي، وتأسيس أطر أنسب لواقع مجتمعاتنا، إذا ما أردنا البناء إلى ما هو أفضل من ذلك.
والسعي لذلك يبدأ بإعادة النظر في الأطر الجاهزة حالًا، وعدم تأجيل ذلك لحتى قدوم ذلك الغد المترقّب، والذي من المفترض أن يتحقق فيه التقدّم المرغوب إلى الخطّ الأوروبي-الأمريكي لنهاية التاريخ. ليس من المعقول اعتماد واتّباع طريقٍ نعلم أن نتيجته أقلّ مما نحتاج، كما أنّ من العجزِ القبولُ والتسليم بحالتنا التبعية بخفض سقف طموحنا إلى ما دون المأمول.
ناهيك عن أنَّ تضييق مصادر الاستلهام والتشارك المعرفي، وَحَدِّهما بهاتين القارّتين، يغيّب عنا ثرواتٍ معرفية لحركات جماهيرية، ونضالاتٍ عظيمة، وتجارب شعبية مقاوِمة من الجنوب العالمي (أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية). جرت هذه الحركات (أو ما زالت تجري) في ظروفٍ أقرب لظروفنا، والدروس الممكن استسقاؤها منها أكثر وأعمق وأدنى.
لن نلمس طريقنا الجديدة إلّا عبر التجربة والعمل والبناء، ومن خلال الكتابة والنقاش، وتبادل وبواسطة تشارك الخبرات والمعارف على كافة الأصعدة والمستويات، وليس فقط مستوى التحليل النظري التجريدي المتسامي عن ملوّثات الحياة اليومية، بل أنه لا بد التركيز على الخوض في هذه الأخيرة تحديدًا، إذ هي المقياس الأساسي لدقة وصحة التحليل وإمكانيّاته التغييرية.
وهنا تحديدًا تكمن أهمية كتاب بانكروفت، فهو ناتجٌ عن تجربة جريئة، تجربةٍ تنطلق من أن مسألة التعنيف لا يمكن حلّها حلًّا جذريًا عبر إطار الجريمة والعقاب. بل الحقيقة أن هذا الإطار يفردن مسألةً جماعية تندر منّا من لم تعانِ ويعانِ منها، كما أنّه ينبذ فردها ويخفيه، هو والبعد الاجتماعي للمسألة وراء أسوار منيعة، ويخلينا بهذا الإخفاء من مسؤولية نبش جذورها البنيوية واقتلاعها.
ففي الحلقات الاستشارية للمعنِّفين، يتحدث بانكروفت مع المعنِّفين أنفسهم ويناقش معهم سلوكهم وأسبابه والمعتقدات والتصوّرات المحرِّكة لسلوكهم. يتفاعلُ المعنِّفون مع بعضهم، ويبعث تميّز واختلاف أسلوب ومعايير كل فردٍ منهم بشجب وانتقاد الآخر، فاضحًا بذلك المنطق المشترك الكامن وراء مختلف الممارسات، مما يدفع كلِّ فردٍ لمراجعة الذات، والإجابة على مساءلة الآخرين.
وتلك العملية تجري على أسس تقع خارج هذه الحلقات، وذلك كي تتجنب التركيز على تفكير المعنِّف نفسه إلى حدّ الهوس والغرق فيه. هذه الأسس تشمل الإنصات إلى من تتعرَّض للتعنيف، إلى صوتها وروايتها، والتباحث معها في مصلحتها وما ترغب به، ومساعدتها في إيجاد السبل لمعالجة الوضع في هذه العلاقة – مهما كانت رغباتها – من أجل التوصل لوضعٍ أفضل.
نتمنى أنْ يكون هذا الكتاب إضافةً مثرية إلى المكتبة العربية، إضافةً تساعدنا في حل هذه الإشكالات الاجتماعية وفهم وإدراك كافة الأطر والأصعدة التي يجب أن ينشغل فيها عملنا وممارستنا.