ذلك لاحتمال أن مدّة الكساد قد تطولُ أكثر بكثير مما يتوقع أغلب الناس وكثيرٌ من أفكارنا وطرقنا أيضًا سيتغير قبل أن نخرج منها. ولست أعني، بالطبع، مدة المرحلة الحادة من الكساد، إنما مدة الظروف الطويلة الثقيلة لشبه الأزمة، أو أقلًّا الازدهار دون الاعتيادي المحتمل أن يتبع المرحلة الحادة.
—جون مينارد كينز، 1931
مقترح هذه الورقة القصيرة هو أنّ الركود الكبير لعامي 2008-2009 الذي دمّر الاقتصاد الرأسمالي العالمي لم يتبعه انتعاش في الاستثمار على النحو «الاعتيادي»، كما حدث بعد الركود الدولي المتزامن لعامي 1974-1975 أو بعد الكساد العميق لفترة 1980-1982، فقد تحوّلَ بدلًا من ذلك إلى «كساد طويل»، يشابه الكساد الطويل لفترة 1873-1897 الذي عانت منه الاقتصادات الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا وقتها، أو الكساد الكبير للثلاثينات. إن كان هذا المقترح صحيحًا، فسيقودنا نحو تحليلٍ مختلف للمرحلة التي تمر بها الرأسمالية، عن ذلك القائل إنها «ركودٌ عادي».
اتخذ مسار نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي العالمي والاستثمار ما أصفه بشكل الجذر التربيعي. قاطعَ معدلَّ نموٍ ذو ميلٍ عالٍ نسبيًا انخفاضٌ حاد (كساد)، ومن ثم انتعاشٌ اقتصادي أقلّ حدة، ولكن النمو استمر بمستوىً أقل بكثير من السابق. في الرسم—وفي الواقع—سيبدو هكذا (الشكل البياني 1).
(الشكل البياني 1)
وصفت حال الاقتصاد الرأسمالي العالمي بـ «الكساد الطويل» في كتابي الركود الكبير في 2009، ولم تمر فترة طويلة حتى تبنى اقتصاديّون آخرون هذا التشخيص. في 2010، قال بول كروغمان:
الركود أمرٌ شائع؛ أما الكساد فهو نادر. على حد تقديري، لم يكن هنالك إلّا حقبتان فقط في التاريخ الاقتصادي وصفِتا على نحوٍ شائع بـ «كساد» في وقتهما: سنوات الانكماش وعدم الاستقرار الذي تلا هلع 1874 وسنوات البطالة الشائعة التي تبعت الأزمة المالية لفترة 1929-1931. لا الكساد الطويل للقرن التاسع عشر ولا الكساد الكبير للقرن العشرين كانا عصريّ انخفاضٍ غير متوقف—على العكس، كلاهما تضمنا فتراتٍ نما فيها الاقتصاد. ولكن حلقات التحسن هذه لم تكن أبدًا كافية لإبطال ضرر الانحدار الأول، وتبعت هذه الحلقات انتكاسات. أخشى أننا الآن في المراحل الأولى لكسادٍ ثالث. لعله سيشابه الكساد الطويل أكثر من الكساد الكبير الأكثر حدة بكثير. ولكن التكلفة—على الاقتصاد العالمي، وفوق كل اعتبار، على ملايين الأرواح المنكوبة لغياب الوظائف—ستكون رغم ذلك مهولة.
وكتب أنور شيخ في عام 2010:
إنّ الأزمة الاقتصادية العامة التي أطلق عنانها في أرجاء العالم عام 2008 تمثلُ كسادًا كبيرًا. أطلقتها أزمةٌ اقتصادية في الولايات المتحدة، ولكنها لم تكن المسبب. هذه الأزمة مرحلةٌ عادية مطلقًا لنسقٍ متكرر عتيق لتراكم رأس المال حيث الطفرات الطويلة يتبعها في آخر المطاف كسادٌ طويل.
وبعد ذلك بفترة، قدَّمَ جون ويكس ورقة تميّز بين الأزمات المُعمَّمَة والأزمات الجزئية. يجادل ويكس أنّ نمط الإنتاج الرأسمالي لم يمر إلّا بمراحل قليلة جدًا يمكن تسميتها بأزمات فعلية. يعدُّ وكيس أن وحدهما الكساد الكبير في الثلاثينات والركود الكبير الذي حدث مؤخرًا يمكن اعتبارهما أزماتٍ مُعمَّمَة («حلقات انكماشٍ شديد») أثَّرت على الاقتصاد الرأسمالي العالمي لأيِّ فترة أو أي عمق. غيرهما مما يسمى بالأزمات لم تكن سوى حالاتِ ركودٍ طفيف أو انهياراتٍ مالية كانت قصيرة أو محدودة داخل الاقتصاد الوطني المعني.
هذه الصورة للتغيرات في الاقتصادات الرأسمالية الكبرى منذ 2009 كسبت زخمًا—بتسارع—حتى لدى علماء اقتصاد التيار السائد. فعلى حد تعبير المدوِّن الكينزي نوح سميث:
يعتقد علماء الاقتصاد الكلّي المعاصرين أنَّ حالات الركود والطفرات تذبذباتٌ عشوائية حول مسار ما. هذه التذبذبات تميل للانتهاء—ركودٌ عميق يؤدي لانتعاشٍ سريع، وتوسعٌ كبير يميل للتبخر سريع. في النهاية، يعيد المسار تأسيس ذاته لربما بعد خمس سنوات. مهما حدث، سواءً خفَّضَ البنك المركزي أسعارَ الفائدة أو أنفقت الحكومة المليارات على البنية التحتية، سرعان ما ستنتهي الأيام العصيبة وستعود أيام مسار النمو المستقر الحلوة…ولكن ماذا لو كان هذا الاعتقاد خاطئًا؟ ماذا لو أوقعت حالات الركود بالاقتصادِ جروحًا دائمة؟
أشار سميث إلى أنَّ انتقاد فكرة أنَّ بعد كلِّ ركودٍ طفرةٌ شارك فيه حتى علماء الاقتصاد اليمينيين. فعلى سبيل المثال، عدَّ عالم الاقتصاد الكليّ البارز غريغ مانكيو، في 2009، أنَّ الركود الكبير سيبشِّر بعقدِ خسارة في الإنتاج مع فشل الاقتصادات الكبرى في العودة إلى مسار معدّل النمو السابق للأزمة. وحسب قول سميث، المفارقة تكمن في أنَّ كروغمان كان من المتفائلين، ذلك وهو عالِمُ اقتصادٍ كينزي ليبرالي. كان كروغمان مخطئًا ومانكيو محقًا.
حقًا، فمعدل النمو الحالي للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الولايات المتحدة ما يزال أقلَّ بِثُلثٍ من متوسط معدل عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية الرازح عند 3.3 بالمئة سنويًا، بينما الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد في الولايات المتحدة أقلُّ من مسار ما قبل الركود بـ 9.8 بالمئة.
ولاحظَ براد ديلونغ، وهو كينزي رائد، في 2015 أنَّ الولايات المتحدة «لم تمر بانتعاشٍ سريع على شكل حرف ‹V› يعيدها إلى مسار النمو السابق للناتج المحتمل». شهدت النقطة الدنيا للركود الكبير لعامي 2008 و2009 ناتجًا محليًا إجماليًا أقل بـ 11 بالمئة من مسار 2005-2007. واليوم يرزح المسار عند أقلَّ 16 بالمئة من مسار الفترة ذاتها. وتقف خسائر الناتج التراكمي عند 78 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لعامٍ واحد بالنسبة للولايات المتحدة، و60 بالمئة لمنطقة اليورو.
ضيف ديلونغ كاتِبًا:
قبل سنةٍ ونصف، حين توقَّعَ بعضنا عودةً بحلول 2017 إلى مجرى الناتج المحتمل مهما كان قدره، خمَّنا أنَّ الركود الكبير سيكلف بلدان شمالِ الأطلسي خسارةً في الإنتاج قدرها حوالي 80 بالمئة من إنتاج عامٍ واحد، فلنقل 13 ترليون دولار. واليوم، يبدو من التفاؤل حدوث عودةٍ بعدَ خمسِ سنواتٍ إلى وضعٍ عاديٍّ جديد كيفما كان، وحتى ذلك السيناريو سيحمل خسائر قدرها 20 ترليون دولار. أمّا سيناريو متشائم فيه خمسُ سنواتٍ شبيهة بفترة 2012-2014 يُضافُ لها خمس سنوات انتعاش سيصل بنا لمجمل خسارةٍ في الثروة قدرها 35 ترليون دولار.
ويختتِمُ بالقول إنَّنا «يومًا ما سيجب علينا التوقف عن تسمية هذا الشيء بـ ‹الركود الكبير› والبدء بتسميته ‹الكساد الأكبر›».
يقدر مكتب الميزانية لمجلس الشيوخ الأمريكي أنَّ الناتج المحلي الإجمالي لن يعود أبدًا لمسار نمو ما قبل الركود الكبير. «الانخفاض المتوقع للناتج المحلي الإجمالي المُحتمَل غير مسبوق، فكلُّ حالات الركود الأمريكية والأوروبية التالية للحرب العالمية الثانية تقريبًا والانتكاسات المرتبطة بالأزمات المالية الأوروبية وحتى الكساد الكبير في الثلاثينات اتَّسمت بعودةٍ لاحقة إلى الناتج المحلي الإجمالي المحتمل». يسمّي المكتب هذا الركود «ركودٌ دائمٌ بكل ما للكلمة من معنى»، ويقدِّر أن مسار معدل النمو الأمريكي سيثبط ويقف عند 1.7 بالمئة ولن يتجاوز 2 بالمئة سنويًا في المستقبل المنظور.
وجد ديفيد بابيل وروكاندرا برودان أنَّ حالات الركود العميقة بعد أزمة مالية يمكن أن تأخذ تسع سنواتٍ قبل أن يعود النمو إلى مساره. ولكن هذه المرة تختلف، إنها أسوء.
قدَّمَت منظمة التعاون الاقتصادي التنمية عام 2015 صورةً قاتمة للرأسمالية العالمية:
يستمر الاقتصاد العالمي في السير بسرعةٍ بطيئة وتبدو بلدانٌ عدة، بالتحديد في أوروبا، غير قادرة على التغلب على إرث الأزمة. مع جثومِ معدلات بطالة عالية وتفاوتٍ عالٍ في الثروة وانخفاضٍ في الثقة، من الواجب إجراءُ إصلاحاتٍ بسرعة لزيادة الطلب والتوظيف ورفع النمو المحتمل. لقد حان وقت العمل. فهنالك خطرٌ متنامٍ كامنٌ في ركودٍ مستديم، حيث يعزِّزُ ضعف الطلب وضعف نمو الإنتاج المحتمل بعضمها بعضًا في حلقةٍ مفرغة.
أين الرِبحُ في ذلك؟
لا نجد في أيٍّ من تفسيرات علماء التيار السائد للكساد الطويل هذه أيَّ ذكرٍ لما يحدث لربحيّة رأس المال، رغم أنَّ نمط الإنتاج السائد في الاقتصاد العالمي نمطُ إنتاجٍ لأجل الربح. ليس من المصادفة غيابُ ذلك طبعًا، فإنْ تدارسَ علم الاقتصاد السائد تفسيرًا للكساد مستندٌ على ربحية رأس المال، سيوحي ذلك أنَّ الرأسمالية مصابةٌ بمشكلةٌ مزمنة تتّسم بأزماتٍ متكرِّرة واعتيادية لا تُحلّ إلا عبر انتكاساتٍ في الإنتاج بل وعلى حساب مستويات معيشة أغلبية الناس.
تجادِلُ هذه الورقة أن الاقتصاد الرأسمالي العالمي دخل كسادًا طويلًا ولم يتعافى من الركود الكبير بالطريقة «الطبيعية» لأنَّ ربحية رأس المال في الاقتصادات الكبرى لم تتعافى. والربحية العالمية، حقًا، في أدنى درجاتها المسجلة. تجادِل النظرية الماركسية للأزمات بوجود ميلٍ لدى معدل الربح للانخفاض مع مرور الوقت وتوسِّع الرأسمالية وتراكم رأس المال. هذا الميل يمكن إعاقته لفترة من الزمن، عبر معدلات استغلال أرفع للعمّال وعبر إبتكارٍ أسرع. ولكن هذا الميل سينطبق بعد حين في تخفيضٍ للربحية. اعتبرَ ماركس قانونَ ميل معدل الربح للانخفاض هذا أهمَّ قانونٍ من قوانين الاقتصاد السياسي، إذ شكَّلَ ميلًا تدريجيًا وبيَّنَ أنّ الرأسمالية نمطُ إنتاج عابِر يحمل تاريخ انتهاءٍ في التنظيم الاجتماعي البشري. ويولّد هذا النمط أيضًا تذبذباتٍ دوريّة في الإنتاج والتوظيف، فالإنتاجُ الرأسمالي ليس متناغمًا إذًا بل تتخلّلُه انتكاساتٌ عنيفة.
إنْ نظرنا لحركة معدل الربح في الاقتصادات الكبرى طوال القرن ونصف القرن الذي مضى منذ أصبحت الرأسمالية نمط الإنتاج السائد عالميًا، يتِّضح سبب الكساد الطويل الحالي أكثر.
يظهر الشكل البياني 3—متوسط المعدل البسيط لمعدل الربح العالمي المستند على دراسة لإستيبان مايتو عام 2014، بتفسيرٍ منّي—أنَّ الربحية العالمية في مرحلة منخفضة، تماثِل انخفاض الربحية الذي جرى منذ 1870 حتى نهاية القرن التاسع عشر والكساد الكبير في الثلاثينات.
في الاقتصاد الرأسمالي الأهم، اقتصادُ الولايات المتحدة، ظلَّ معدل الربح في انخفاضٍ تدريجي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كان هنالك «عصرٌ ذهبي» منذ 1946 وحتى 1965، حين ظلَّت الربحية مستقرة (على الأقل وفق مقياس التكلفة الحالي)، ولكن تلتها فترة ربحية شديدة الانخفاض (فترة الأزمة) منذ 1965 وحتى 1980-1982. ومنذ 1982 وحتى 1997 كان هناك انتعاشُ ربحيّةٍ معتبر (وفق التكلفة الحالية) وارتفاعٌ طفيف، أو نهاية للانخفاض (على أساسِ تكلفة تاريخية)—وهي ما يسمى بالفترة النيوليبرالية. منذ 1997، دخل معدل الربح في الولايات المتحدة مرحلةَ نزول. ومنذ نهاية الركود الكبير، انتعشت الربحية من مستويات 2009 المنخفضة ولكنها ما تزال تحت المستوى المُحقَّق في 1997. وقد انخفضت أيضًا في 2014.
وقانون ماركس لميل معدل الربح للانخفاض يمثِلُ ما سبق. معدل الربح في الاقتصاد العالمي سيميل للانخفاض مع مرور الوقت. ولكن هنالك فترات تلعب العوامل المضادة فيها دورًا، وبذلك لا يتجسّد الميل للانخفاض في انخفاضٍ فعلي لفترة من الزمن. وبالتالي يمكن أن تحصل على دورة أرباحٍ مكوّنة من انخفاضٍ ربحية تتلوها فترة ارتفاع ربحية وبعدها انخفاضٌ جديد، وكلُّ ذلك سارٍ في عملية انخفاضٍ تدريجية. يمثِّل معدل الربح الأمريكي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ما سبق، بدورة طولها 32-36 سنة من قعرٍ إلى قعر.
(الشكل البياني 3)
يقول قانون ماركس إن معدل الربح سينخفض لوجود تركيب عضوي متصاعد لرأس المال: قيمة رأس المال الثابت (الآلات والنبات والمواد الخام) سترتفع أسرع من رأس المال المتغير (الأجور والفوائد المدفوعة للقوى العاملة المُوظَّفة). تؤكد بيانات الولايات المتحدة ذلك. هنالك ارتباطٌ عكسيٌّ قوي (-0.67) بين التركيب العضوي لرأس المال ومعدل الربح. ارتفع التركيب العضوي لرأس المال 20 بالمئة منذ 1946 وحتى 2014 ومعدل الربح انخفض 20 بالمئة. في فترة ارتفاع الربحية، منذ 1982 و1997، كانت العوامل المضادة في حيز التنفيذ، وبالتحديد ارتفاع معدل الاستغلال (فائض القيمة) وخفض قيمة رأس المال الثابت أديّا إلى انخفاضٍ في التركيب العضوي. ارتفع معدل فائض القيمة في تلك الفترة 13 بالمئة والتركيب العضوي لرأس المال انخفض 16 بالمئة. كان السبب وراء ثلثي الارتفاع الذي حصل لمعدل الربح، منذ 1980 وحتى 2014، ارتفاعُ استغلال العمالة أثناء الفترة النيوليبرالية والثلث الأخير سببه خفض قيمة التقنية. وذلك، أكرر، يدعم قانون ماركس.
جادل ماركس أنَّ الانتكاسات في الإنتاج الرأسمالي تأتي حين تنخفض الربحية إلى مستوىً ترتفع فيه تكلفة الاستثمار الجديد في العمالة والتقنية إلى أكثر من الربح المجني، إذ تبدأ كتلة الربح بالانخفاض. متى ما باشر ذلك، تبدأ الشركات الأضعف بتلقي خساراتٍ ضخمة وتقوم لذلك بتسريح العمالة والتوقف عن الاستثمار. ينساب هذا الهبوط في التوظيف والاستثمار خلال بقية الاقتصاد، مُولِّدًا أزمةً كلية في الإنتاج. أيُّ التزامات ديون تراكمت، بالتالي، لأجل الاستثمار أو للمضاربة في سوق الأسهم أو العقار لتحفيز الربحية لا يمكن تسديدها وتُشعِلُ أزمة الربح أزمةً مالية. وهذه الأزمة المالية بدورها تُحدِث انخفاضًا أكبرَ منذ ذلك في الاستثمار والإنتاج.
هذا التفسير الماركسي يختلف عن التفسير الكينزي. الأخير يعتبر الاستثمارَ مستقلًا ومستجيبًا خلاصةً لـ «ثقة» نسبية في أُفُق الأعمال، لـ «أرواح حيوانية»، حتى أنَّ الأرباح الحالية يُحدِّدُها الاستثمار الحالي والاستثمار في الماضي القريب. الرأي الماركسي هو أنَّ الاستثمار يعتمد على الربحية، حتى إنَّ التغيرات في الاستثمار تستجيب لتغيراتٍ سابقة في الأرباح.
اختلافُ كينز وماركس حول الكساد
ينتقد يانيس فاروفاكيس نظرية ماركس للأزمات قائلًا إنها تفشل في تفسير حالات الكساد على عكسها مع الركود، فيشير:
يروي ماركس قصّة حالاتِ ركود مُنقِذة تحدث بسبب الطبيعة الثنائية للعمالة وتولِّد فترات نمو حبلى بالهبوط القادم الذي، هو بدوره، ينجب الانتعاش القادم، وهلم جرًا. ولكن، لم يوجد ما هو مُنقِذٌ في الكساد الكبير. ركود الثلاثينات كان كما سبق: ركودٌ تصرَّف كتوازنٍ مستقر تقريبًا، وضعٌ اقتصاديٌّ بدى قادرًا تمامًا على استدامة نفسه، حيث يرفض الانتعاش المترقّب بعنادٍ أن يلوِّح في الأفق حتى بعد انتعاش معدل الربح استجابةً لانهيار الأجور وأسعار الفائدة.
يوفِر كينز لِفاروفاكيس تفسيرًا أفضل للكساد على ما يبدو.
يجادل جون ويكس أنَّ المشكلة تكمن في انهيارِ دورة رأس المال وتحقيق المال، الأمرُ الذي لا علاقةَ له بتراكم القيمة في عملية الإنتاج كما ينادي منظِّرو «انخفاض معدل الربح». فعلى حد قوله: «تفشل آلية ‹انخفاض معدل الربح› في تجاوز خط البداية كمرشَّحٍ لتوليد أزماتٍ وطنية، ناهيك عن أزماتٍ عالمية». ذلك لأنَّ قانون ماركس لارتفاع التركيب العضوي لرأس المال لن يولِّد إلا انخفاضًا تدريجيًا في الربحية ولا توجد آلية تحدد «القيمة الحرجة» للربح يمكن أن تُشعِلَ انهيارًا مفاجئًا في الإنتاج أو الاستثمار أو انتشاره المتزامن عالميًا.
ولكن الأدلة الداعمة للرأي الماركسي قوية. حقًا، يمكن إيجادُ رابطٍ اعتيادي بين حركة الربحية، والأرباح والركود في الاستثمار والناتج المحلي الإجمالي.
صحيحٌ أنَّ أزماتٍ مالية عديدة لا يصاحبها انتكاسٌ أو ركودٌ اقتصادي، مثل انهيار سوق الأسهم عام 1987، وهو المثال الذي يستشهد به ويكس. ولكن حتى في تلك الحالة كانت الربحية في الاقتصادات الكبرى، من ضمنها الولايات المتحدة، في ارتفاع. وبالتالي لم يطُل الانهيار وانعكس بسرعة. ولكن الحال لم يكن على ذلك في 1974-1975، وهو أول ركودٍ متزامن عالميًا، أشعلته طفرة أسعار النفط، فقد تلا عقدًا أو أكثر من هبوط الربحية، أو في 1980-1982، أشعَلته مرّةً أخرى أسعار الطاقة، إنما هذه المرة أيضًا بعد انخفاضٍ آخر في الربحية.
على سبيل المثال، وجد هوزيه تابيا غرانادوس أنَّ في كلٍّ من حالات الركود الكبرى الخمس التي حدثت في فترة ما بعد الحرب، كانت الربحية في انخفاضٍ بعد أن وصلت ذروةً قبل سنةٍ أو سنتين على الأقل. ذرواتُ حصص الربح قبل الضرائب يمكن فعلًا ملاحظتها في 1973 قبل الأزمة النفطية الأولى، وفي 1978 قبل الأزمة النفطية الثانية، وفي 1988 قبل أزمة أوروبا الشرقية، و1997 قبل الأزمة الآسيوية، وأيضًا في 2006 قبل الركود الكبير. وجد تابيا غرانادوس أيضًا، في 251 ربعٍ من أرباع النشاط الاقتصادي الأمريكي منذ 1947، أنَّ الأرباح بدأت بالانحسار قبل الاستثمار بفترة غير وجيزة، وأنَّ أرباح ما قبل الضرائب تفسِّرُ 44 بالمئة من كل تحرُّكات الاستثمار، بينما لا يوجد أي دليل على قدرة الاستثمار على تفسير أيِّ حركة في الأرباح.
ووجدت أنا وَغوغليملو كارتشيدي أنَّ الأرباح انخفضت لعدة أرباعٍ قبل انهيار الاقتصاد الأمريكي. أما أرباح الشركات الأمريكية وصلت ذروتها في بدايات 2006 ومن ثم انخفضت (وهنا أعني المقدار المطلق، وليس معدل الربح، فهذا الأخير وصل ذروته قبل ذلك في 2005). انخفضت كتلة الربح، منذ ذروتها في أوائل 2006، حتى منتصف 2008، وتعافت بعض الشيء في بداية 2009 ومن ثم انخفضت لقاعٍ جديدة في منتصف 2009. وبدأ انتعاش الأرباح بعد ذلك والذروة السابقة للقيمة الاسمية للدولار تمَّ تجاوزها في منتصف 2010.
كيف كانت استجابة الاستثمار لتحرُّك الأرباح هذا في الولايات المتحدة؟ حين بدأ نمو أرباح الشركات الأمريكي بالخمول في وسط 2005 ومن ثم انخفض بالأرقام المطلقة في 2006، استمرَّ استثمار الشركات بالنمو لفترة مع قيام الشركات باستنفاذ احتياطاتها أو زيادة الاستعارة في أمل استعادة الأرباح. ولكن مع عدم تحقق ذلك، قلَّ نمو الاستثمار أثناء 2007 وبعدها انخفض بالأرقام المطلقة في 2008، إذ انخفض في أحد اللحظات إلى قرابة 20 بالمئة على أساسٍ سنوي. بدأت الأرباح بالانتعاش في نهاية 2008، ولكن الاستثمار لم يلحقها إلا بعد ذلك بعام (الشكل البياني 4). وينطبق ذلك على الناتج المحلي الإجمالي، إذ وصل لذروته بعد وصول الأرباح لذروتها بفترة وانتعشَ بعد انتعشت.
تقود حركةُ الأرباح حركةَ الاستثمار إلى الانتكاس، وليس العكس. كانت الأرباح في انخفاض قبل بداية أزمة الائتمان بفترة. فالأزمة بالتالي لم تنتج عن افتقارِ «طلب فعال»، إنما حذت قانون ماركس للربحية، حتى إن كان فتيل الانتكاسة في القطاع المالي.
عوضًا عن رفض أهم قوانين ماركس للاقتصاد السياسي كقانونٍ لا أهمية له في التفسير السببي للأزمات وحالات الكساد، يجب أن يكون هدف الأبحاث المستقبلية ربطَ قانون الربحية مع النواحي الأخرى للتنمية الاقتصادية الرأسمالية، من ضمنها الائتمان والقطاع المالي والإمبريالية.
(الشكل البياني 4)
دورات الربح
تكمن دورة الربح في قلب حالات الكساد والركود. هنالك دوراتٌ شتى يمكن تبيُّنها في الرأسمالية الحديثة لتفسير أسباب مرور الرأسمالية بنكسة عميقة ترتَّب عليها كسادٌ طويل.
اعتقد ماركس بوجود دورات، إذ قال: «كلّكم تعلمون، لأسبابٍ لا أحتاج لشرحها الآن، أنَّ الإنتاج الرأسمالي يمرَّ خلال دوراتٍ متكرِّرة معينة». وحاول ماركس تقدير طول دور التراكم:
يتوافق رقم 13 سنةً بما فيه الكفاية مع النظرية، إذ أنّه يؤسس وحدةً لحقبة واحدة من إعادة الإنتاج الصناعي، والتي تتصادف—بهذا القدر أو ذاك—مع فترة تكرّرِ الأزمات الكبيرة؛ من نافلة القول أنَّ مسارهم تحدِّدُه أيضًا عوامل ذاتٍ نوعٍ مختلفٍ جدًا، استنادًا لفترة إعادة إنتاجهم. أهمُّ شيءٍ بالنسبة لي اكتشافُ—في المُسلَّمات المادية المباشرة للصناعة الكبرى—عاملٍ واحد يحدّدُ الدورات.
النقطة الرئيسة لماركس هي أنَّ «دورة الدورانات المترابطة، الممتدة عبر عدة سنين، حيث رأس المال محصورٌ فيها بعنصره الثابت، أحدُ أهمِّ الأساسات المادية للدورة [الأزمة] المنتظمة . . . ولكن الأزمةَ دائمًا ما تكون نقطة البدء لكمية كبيرة من الاستثمار الجديد. إنها بالتالي أيضًا بهذا القدر أو ذاك، إن نظرنا للمجتمع بمجمله، أساسٌ مادي جديد لدورة الدوران التالية». إذًا، ربط ماركس نظريته للأزمات بدورات دوران رأس المال الثابت.
كيف يمكن لنا أن نقدر طول دور التراكم الآن؟ حسنًا، يقدِّمُ مكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي بياناتٍ عن البناء العمري لتبديل الأصول الثابتة الخاصة غير السكنية. وتبيّنُ أنَّ استبدال الأصول الثابت إن كان نموذَج تفسير أيِّ دوراتٍ في تراكم رأس المال، ستكون الدورة الأمريكية مُتوقَّع أن تطول حوالي 15-17 سنة.
وفكرة دورات الربح يدعمها دليلٌ واضح في دورة سوق الأسهم في كل المراكز المالية الرائدة. تبدو دورة سوق الأسهم الأمريكية بذات مظهر دورة الأرباح الأمريكية تقريبًا، وإن كانت تختلف بعض الشيء في نقاط دورانها. حقًا، يبدو أنَّ سوق الأسهم تصل إلى ذروة قيمتها بعد بضعة سنواتٍ من وصول معدل الربح ذروته. وهذا مُتوقّعٌ لأن سوق الأسهم مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بربحية الشركات، أكثر بكثير من ارتباطه بالقروض والسندات المصرفية. حين يدخل معدل الربح موجته المنخفضة، سرعان ما يتبعه سوق الأسهم، وإن تأخَّر بعض الشيء.
وبدأت أبحاثٌ جديدة الآن بالتعرف على دورة ائتمان على الأقل في الاقتصادات الرأسمالية الكبرى مع مدة طولها 16-18 عامًا. وجدَ كلاوديو بوريو ما أسماه بـ «الدورة المالية» مستخدمًا مركَّبَ أسعار العقار (نسبة أسعار المنازل إلى المداخيل) والتغيُّرات في الائتمان (نسبة الائتمان إلى الناتج المحلي الإجمالي). انصدمَ بوريو من حقيقة أنَّ المدة أطول من «دورة الأعمال». من المثير للاهتمام أنَّ دورة الأعمال الي اكتشف تطابق في طولها دورة الربح المُعرَّفة أعلاه، وتبدو أنّها تسير عكسيًا مع دورة الربح (على الأقل في الولايات المتحدة): حين تدخل الربحية مرحلة الهبوط، تكون الدورة المالية في مرحلة الارتفاع. يوحي ذلك أنَّ الرأسماليين يبحثون عن استثماراتٍ غير مُنتِجة مثل العقار لاستبدال الاستثمار في الإنتاج حين تنخفض الربحية في الأصول المُنتِجة. هذا الأمر مهمٌّ جدًا لفهم العلاقة بين قطعايّ الرأسمالية الإنتاجي والمالي والتي بلغت أوجها في الركود الكبير لعامي 2008-2009.
هنالك دليلٌ على دوام دورة الأرباح حوالي 32-36 سنة من قاعٍ إلى قاع، وعلى دورة أسعار الإنتاج الأطول (تدوم 54-72 سنة)، والمسماة تيمنًا بعالم الاقتصاد السوفييتي كوندراتييف. يمكن ربط هؤلاء بدوراتٍ أقصر (دورة كوزنيتس للبناء، ودورة جوغلار للإنتاج ودورة كيتشين للمخزون). في المقابل، يمكن ربط دورة كوندراتييف الطويلة بدورة حياة «تجمُّعات الابتكار» الرئيسة (الشكل البياني 5).
يمكن تقسيم دورة كوندراتييف بدورة الربح إلى أربعة أقسام أو «فصول». يمكننا البدء بفصل الربيع، حيث الربحية في مرحلة ارتفاع ومثلها أسعار الإنتاج. فصل الربيع هذا فترةُ انتعاشٍ اقتصادي مُعتبَر للرأسمالية، تكون فيه حالات الكساد والانتكاس الاقتصادي صغيرة الحجم ونادرة وقصيرة العمر. يتلوه فصل الصيف، حيث تستمر الأسعار بالارتفاع بينما الربحية تنخفض. تعاني الرأسمالية في فصل الصيف هذا من انتكاساتٍ أكثر ذات طابعٍ متزايدٍ في العمق. وبعدها يأتي فصل الخريف، بأسعار أنتاجٍ وصلت لذروتها وبدأت بالانخفاض. هنالك انخفاضٌ في معدل التضخم ولكن الربحية في ازدياد. في فصل الخريف هذا، حالات الركود قليلة وقصيرة العمر، ولكن الضغوطَ تكمن على الأجور إذ أنَّ الأسعار لا تكاد تزداد. أخيرًا يأتي فصل الشتاء، وندخل فترة كسادٍ في الأسعار وانخفاضٍ في الربحية. هذه المرحلة مرحلةٌ سيئة جدًا للرأسمالية.
(الشكل البياني 5)
في دورة كوندراتييف كان هنالك فصلُ شتاءٍ في الاقتصاد الرأسمالي البريطاني في فترة 1871-1892، والتي تصادفت مع انخفاضٍ في الربحية، الأمرُ الذي لا يختلف عن انخفاض الربحية في الاقتصاد الأمريكي منذ 1997. كان فصلُ الشتاء التالي في دورة كوندراتييف ممتدًا من 1929-1946، ونحن الآن في فصلٍ شتاءٍ آخر بدأ حوالي 1997-2000 ويجب أن يستمر حتى 2016-2018. في هذا السياق، إنَّ الركود الكبير لعام 2008-2009 جزءٌ من فصل الشتاء الكساديِّ الأعم للرأسمالية الذي ما نزال نمرُّ به.
ولكن دورة الربح مهمة. إنَّ سبب دخول الرأسمالية العالمية في كساد وأسباب حدوث حالاتِ كسادٍ في أواخر القرن التاسع عشر وفي ثلاثينات القرن الماضي، وليس مجرَّد «ركود»، هو أنَّ موجة الربح المنخفضة تتزامن الآن مع الموجة المنخفضة لدورة كوندراتييف للأسعار التي بدأت في 1982 ولن تصل قاعها حتى 2018.
المصدر: مجلة ساينس أند سوسايتي