في مثل هذا اليوم في عام 1973م، رحل الرئيس التشيليّ سلفادور أييندي في قصر الرئاسة لا مونيدا في مدينة سانتياغو، أثناءَ دفاعه عن نفسه باستخدام بندقية أهداها إليه فيديل كاسترو. في هذه المقالة التي نُشرت في ذا نيو ستيتسمان شهر مارس 1974م، يلقي الروائي غابرييل غارسيا ماركيز نظرةً سجلَّ أييندي في تشيلي، وعلاقاتِ منافسيه بالولايات المتّحدة وصعود خَلَفِه: الجنرال أوغوستو بينوشيه.
بداية النصفي ليلةٍ في أواخر عام 1969، تناول ثلاثةُ جنرالاتٍ من البنتاغون العشاء مع خمسة ضبّاطٍ في الجيش التشيلي في منزلٍ في إحدى ضواحي واشنطن. كان المُضيف هو العقيد الرّكن غيراردو لوبيز أنغولو، الملحق الجوّي المساعد للبعثة العسكرية التشيلية للولايات المتحدة، وأمّا الزّوار التشيليون فقد كانوا أقرانه من فروعٍ أخرى للقوات العسكرية. كان العشاء على شرف المدير الجديد لأكاديمية القوّات الجوّية التشيلية الجنيرال كارلوس تورو مازوتي، الذي وصل إلى واشنطن قبل ذلك بيومٍ في بعثةٍ دراسيّة. انتعشَ الضبّاطُ بسَلطةَ فواكه، والتهموا لحمَ عجلٍ مشويّ مع البازلاء وشربوا أنواع النبيذ التي حنّوا إليها، أوتي بها من وطنهم البعيد جنوبًا، حيث تألّقت الطيور على الشواطئ في وقت غرقت واشنطن في الثلوج، وتحدّثوا غالبًا بالإنجليزية حول أمرٍ بدى أنّه شَغَلَ جُلَّ اهتمامِ التشيليين في تلك الأيام: الانتخابات الرئاسية القريبة في سبتمبر المقبل. وأثناء تناولهم الحلوى، سَأل أحدُ جنرالات البنتاغون عمّا سيفعله الجيش التشيلي في حال فاز مرشّح اليسار – أي، شخصٌ مثل: سلفادور أييندي – في الانتخابات. أجابه الجنيرال تورو مازوتي: «سنستولي على قصر مونيدا في نصف ساعة، حتى لو اضطررنا لإحراقه بالكامل».
كان من ضمن المدعوّين الجنيرال إيرنيستو بايزا واحدًا، وقد أصبح مدير الأمن القومي في تشيلي، بعد أن قاد الهجوم على القصر الرئاسي أثناء الانقلاب في سبتمبر الماضي، وأصدر أمر إحراقه. حقّقَ اثنانِ من أتباعه في تلك الأيّام الأولية شُهرةً في تلك العملية ذاتها: الجنيرال أوغوستو بينوشيه، وهو رئيس المجلس العسكري الحاكم، والجنيرال خافيير بالاسيوس. وحضر المأدبة عميد القوات الجوّية سيرجيو فيغوروا غوتيريز أيضًا، وقد أصبح وزير الأعمال العامة، وصديقٌ مقرّب لعضوٍ آخر في المجلس العسكري، جنيرال القوّات الجوية غوستافو ليه، الرجل الذي أمرَ بقصف القصر الرئاسي. وآخر الزّوار كان الأميرال أرتورو ترونكوسو، وقد أصبح الآن الحاكمَ البحري لفالبارايسو، وهو من نفّذ حملة التطهير الدمويّة لضبّاط البحرية التقدميين، وكان أحد من أطلقوا الانقلاب العسكريّ ليوم 11 سبتمبر.
كان ذلك العشاء لقاءً تاريخيًا ما بين البنتاغون وكبار ضبّاط القوات العسكرية التشيلية. ومع توالي اللقاءاتٍ اللاحقة، في واشنطن وسانتياغو، وصل إلى توافق على خطّة طوارئ، وحسبها سيستولي أولئك رجال العسكر التشيليون – وثيقو الصلة، قلبًا وَرُوحًا، بالمصالح الأمريكية – على السلطة في حال انتصر ائتلاف الوحدة الشعبية بقيادة أييندي في الانتخابات.
صيغت تلك الخطّة بدمٍّ بارِد، كمجرّد عمليّةٍ عسكريّة، ولم تكن نتيجةَ ضغطِ شركة الهاتف والتليغراف الدولية، فأسبابها أعمق وترجع إلى صلب السياسات العالمية. على جانب أمريكا الشمالية، كانت المنظّمة التي بدأت بتحريك العملية هي وكالة الاستخبارات الدفاعية التابعة للبنتاغون، ولكن إدارتها الفعلية وقت تحت وكالة الاستخبارات البحرية، الخاضعة للإدارة السياسية لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) ومجلس الأمن القومي. وقد كان من الطبيعي جدًا أن تُوكَّل البحرية – وليس الجيش – بإدارة المشروع، فالانقلاب التشيلي كان سيتزامن مع «عمليّة يونيتاس» (UNITAS)، المُسمّى الذي أُطلِق على مناورات مشتركة بين وحدات بحرية أمريكيّة وتشيلية في المحيط الهادي. كانت هذه المناورات تُعقَد في نهاية كلِّ شهر سبتمبر، الشهر ذاته التي تُجرَى فيه الانتخابات، وكان من الطبيعي أن تظهر فيه كلّ ألوان المعدات الحربية والرجال المتدرِّبين جيّدًا في مختلف فنون الموت وعلومه على أراضي تشيلي وسمائها.
خلال تلك الفترة، قال هنري كسنجر في اجتماعٍ خاص مع مجموعة تشيليين: «لستُ مُهتمًا بالجزء الجنوبي من العالم ولا أعلم أيَّ شيءٍ عنه، من جبال البيرينيه فنازِلًا». وبحلولِ ذلك الوقت، وُضِعت خطة الطوارئ بأكملها حتّى أدقّ تفاصيلها، ومن المستحيل أن نفترض أنّ كيسنجر أو الرئيس نيكسون نفسه لم يكن على درايةٍ بها.
تشيلي بلادٌ ضيّقةٌ، فطولها حواليّ 2,660 ميل ومتوسّط عرضها 119 ميل، ومكتظّة بتعدادٍ سكّاني قدره عشرة ملايين نسمة، مِنهم حوالي ثلاثة ملايين يعيشون في إقليم سانتياغو، وهي العاصمة. لا تكمن عظمة هذه البلاد في عددِ حسناتها، وإنّما في خصوصيّاتِها العديدة. فالشيء الوحيد الذي تُنتِجه بجدّيةٍ، حقيقيّةً، هو خامُ النّحاس، ولكنّ ذلك الخام هو الأفضل في العالم، وكمّية إنتاجه لا تتجاوزها إلّا الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. تُنتِج تشيلي نبيذًا أيضًا، جودته تماثِلُ الأنواع الأوروبية، ولكنّ أغلبه لا يُصدَّر. أمّا الناتج القومي للفرد وقدره 650$، فهو من ضمن الأعلى في أمريكا اللاتينية، ولكن – كالمعتاد – فالنصف من إجمالي الناتج المحلي يملكه أقلّ من 300 ألف شخص.
في عام 1932، أصبحت تشيلي أوّلَ جمهوريةٍ اشتراكية في الأمريكيّتين، وحاولت الحكومة، بتأييدٍ حماسيٍّ من العمّال، تأميمَ كلٍّ من النحاس والفحم. لم تستمرّ تلك التجربة أكثر من 13 يومًا. يمرّ على تشيلي هزّات أرضيّة بمعدّل واحدة كلّ يومين وزلزالٌ مدمِّر في كلّ ولايةٍ رئاسية. فأقلّ الجيولوجيين تشاؤمًا لا ينظرون إلى تشيلي كبلادٍ تقع على اليابسة بل كشريطٍ على طرف جبال الأنديز يقع في بحر، ويعتقدون أنّ أراضيها الوطنية بِمُجملها مقدّرٌ لها أن تختفي في طوفان مستقبليٍّ ما.
والتشيليون يشابهون بِلادهم كثيرًا على نحوٍ ما. فهم أكثر شعوبِ القارّة لُطفًا، وهم يحبّون الحياة ويعرفون كيف يعيشون بأفضل الطُرُق بل وأكثر من ذلك بقليل، لكن لديهم نزعةٌ خطيرة تجاه التشكيكيّة والتكهّنات الفكرية.
قال لي تشيليٌ مرةً في يومِ الإثنين: «لا يوجد تشيلي واحد يعتقد أنّ غدًا يومُ الثلاثاء»، وهو أيضًا لم يعتقد بذلك. ورغم ذلك، وحتى مع هذه التشّكيكيّة المغروسة – أو لربما بفضلها – فالتشيليون اكتسبوا درجةً من الحضارة الطبيعية، والنضوج السياسي، ومستوىً من الثقافة ميّزهم عن باقي بقاع المنطقة. فمن ثلاثِ جوائز نوبل للآداب حازت عليها أمريكا اللاتينية، اثنتان كانتا لِتشيلي، وأحد الحاصلين عليها – بابلو نيرودا – كان أعظم شاعرٍ في هذا القرن. لربما عَلِمَ كيسنجر بذلك حين قال أنّه لا يعلم شيئًا عن الجانب الجنوبيّ من العالم. على كل حال، عَلِمَت أجهزة الاستخبارات الأمريكيّة أكثر مِنْ ذلك بكثير. ففي عام 1965، وبدون أخذ تصريحٍ من الحكومة التشيليّة، أصبحت البلاد مركز انطلاقٍ وموقع تجنيدٍ لعمليّةِ تجسّسٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ مريعة: «مشروع كاميلوت». كان هدف العملية هو إجراءُ تحقيقٍ سريٍّ باستطلاعاتٍ دقيقةٍ وموجّهة للناس من كلّ المستويات الاجتماعية وكلّ الوظائف والحِرف، حتّى في المناطق النائية لعددٍ من أمم أمريكا اللاتينية، بغيّةَ تقييم مستوى النمو السياسي والتوجّهات الاجتماعية للفئات الاجتماعية المتنوّعة بطريقةٍ علميّة. والاستطلاعات التي وُجِّهت للجيش احتوت السؤال ذاته الذي سيسمعه الضبّاط التشيليّون مرّةً أخرى أثناء عشاءٍ في واشنطن: ماذا سيكون موفقهم في حال أمسكت الشيوعية بزمام السلطة؟ لقد كان استعلامًا غريبًا.
كانت تشيلي لفترةٍ طويلة منطقةً مفضّلة للبحث مِنْ قِبل الباحثين الاجتماعيين من أمريكا الشمالية، فعمرُ وقوّة حركاتها الشعبية، وإصرار وذكاء قياداتها، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعيّة، قدّمت لمحة عن مصير البلاد. فلا يحتاج المرء للنظر إلى نتائج «مشروع كاميلوت» ليجازف بالقول إنّ تشيلي مرشّحٌ رئيسيٌّ لتكون الجمهورية الاشتراكية الثانية في أمريكا اللاتينية بعد كوبا. لم يكن هدفُ الولايات المتحدة ببساطة إذن منعُ حكومةٍ يقودها أييندي من القبض على زمام الحكم لكي تحمي الاستثمارات الأمريكيّة، بل كان هدفها الأكبر هو تكرارُ أنجح العلميّات في تاريخ الإمبريالية في أمريكا اللاتينيّة وأكثرها إثمارًا: البرازيل.
في يوم الرابع من سبتمبر لعام 1970، كما كان متوقعًا، فاز الطبيب الاشتراكيّ الماسوني أييندي بالرئاس، ولكنّ خُطّة الطوارئ لم تُطبّق، وأكثر التفسيرات شيوعيًا لما جرى هي أكثرها سُخفًا: يُزعَم أنّ شخصًا ما من البنتاغون ارتكب خطأً، وطلب 200 تأشيرة لما زعم أنها جوقةٌ من جهاز البحريّة، والتي تكوّنت واقِعًا من أخصّائيين في إسقاط الحكومات، إنما كان من ضمنها عدّة أميرالاتٍ ليس بإمكانهم غناءُ نوتة موسيقيّة واحدة. هذه الزّلة، كما يُفتَرَض، أدّت إلى تأجيل المغامرة. ولكنّ الحقيقة هي أنّ المشروع تمّ تقييمه بِعُمق: شعرَت وكالاتٌ أمريكيّة أخرى – بالخصوص الاستخبارات المركزيّة والسفير الأمريكي لتشيلي – أنّ خطة الطوارئ اختُزِلَت بشدّة في الجانب العسكريّ ولم تضع الأوضاع السياسية والاجتماعية في تشيلي في عين الاعتبار.
بالفعل، فانتصار الوحدة الشعبيّة لم يؤدي إلى هلعٍ اجتماعيٍّ كما توقّعت الاستخبارات الأمريكيّة، بل على العكس تمامًا: لاقت استقلاليّة الحكومة الجديدة في العلاقات الدوليّة وحسمها العاجل في المسائل الاقتصاديّة استحسانًا واحتفالًا اجتماعيًّا.
فخلال عامها الأوّل، قامت بتأميم 47 شركة صناعيّة، إلى أغلب النظام البنكيّ، وبالإصلاح الزراعي صادرت ستّة ملايين فدّان من الأراضي المملوكة مِن مُلّاك الأراضي الكبار وألحقتها بالمشاعات. وأبطئت عمليّة التضخّم، وحقِّقَ توظيفٌ كامل وارتفعت الأجور نقديًا بنسبة 30 بالمئة.
إتمام تأميم النّحاس
بدأت الحكومة السابقة – بقيادة الحزب المسيحي الديموقراطي ورئاسة إدواردو فري – باتّخاذ خطواتٍ تجاه تأميم النحاس، مع أنّ المسمّى كان الـ «تشيلَنة» باختصار، كانت خطّتها هي شراء 51 بالمئة من ممتلكات التعدين التي المملوكة أمريكيًّا، ومن أجل «تشيلَنة» منجم إل تينيينتي وَحْده، دفَعَت الحكومة ما يعادل أكثر من القيمة الدفترية لتلك المُنشأة بأكملها.
استعاد ائتلاف الوحدة الشعبيّة – بعملٍ قانونيٍّ واحد دعمه مجلس الشيوخ التشيليّ المكوّن من جميع الأحزاب الشعبية في البلاد – كُلَّ احتياطاتِ النحاس في البلاد التي تشغّلها أيٌّ من الشركات التابعة للشركتين الأمريكيّتين أناكوندا وكينيكوت، واستردت هذه بدون تعويض، حيث بيّنَت حساباتُ الحكومة أنّ الشركتين حقّقتا فائض أرباحٍ قدرُه 800 مليون دولار خلال خمسة عشر عامًا.
بدأت كلٌ من البرجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى – القوّتان الاجتماعيّتان اللتانِ كان من المُحتمَل أن تدعما انقلابًا عسكريًا – بالاستمتاع بامتيازاتٍ لم يتوقّعانها، إنما ليس على حساب الطّبقة الكادحة، بل على حساب الأوليغارشية الماليّة وأصحاب رؤوس الأموال الأجنبيّة. والقوّات المُسلّحة، بصفتها فئةً اجتماعية، تنحدرُ من الطبقة الوسطى وتمتلك طموحاتها، ولذا لم تملك أي حافزٍ أو عذرٍ حتى لدعمِ مجموعةٍ صغيرة من الضّباط الراغبين بانقلاب. أمّا الديموقراطيّون المسيحيّون – لإدراكهم هذا الواقع – لم يكتفوا بالنأي عن دعم مؤامرة الثكنات في ذلك الوقت، بل عارضوها بحزم لِعلمهم أنّها لم تحظى بشعبيّة حتى داخل أعضاء حزبهم العاديين.
كانَ هدفُهم مُختلفًا: أن يستخدموا أيّ وسيلةٍ ممكنة لإعاقةِ قدرة الحكومة على النشاط بشكل صحيٍّ، مِنْ أجل أن يكسبوا ثلثيّ مقاعد مجلس الشيوخ في انتخابات مارس 1973، مما يمكنّهم مِن إزاحة رئيس الجمهوريّة مِن منصِبه داخل إطار الدستور.
يشكّل حزب الديموقراطيين المسيحيين منظّمةً ضخمة تمرّ عبر الاصطفافات الطبقيّة ولديها قاعدة شعبيّة أصيلة في الطبقة الكادحة الصناعية الحديثة، ومُلّاك الأراضي الريفيّة الصغيرة ومتوسطة الحجم، والبرجوازية الصغيرة والطبقة المتوسطة الحضريّة. وفي حين كان ائتلافُ الوحدة الشعبية هو الآخر عابرًا للطبقات في تكوينه الشعبيّ، فقد عبَّرَ أكثر عن صوت الطبقة الكادحة الأقلّ حظًا – أي: الطبقة الكادحة الزراعية – والطبقة المتوسّطة الدنيا الحضريّة.
تحكّم الديموقراطيون المسيحيّون، في تحالفهم مع الحزب الوطني اليمينيّ المتطرّف، بمجلس الشيوخ وبالمحاكم، في حين تحكّم ائتلاف الوحدة الشعبيّة بالسلطة التنفيذية. أصبح هذا الاستقطاب بين هذه الأحزاب، في الواقع، استقطابًا في البلاد. واللافِت للنظر هو أنّ إدواردو فري الكاثوليكي، الذي لا يؤمن بالماركسيّة، هو أفضل من استغلّ الصراع الطبقيّ، وأكثرُ من حفّزه وأوصله للحظة حسمٍ، بهدف الإخلال بتوازن الحكومة وإسقاط البلاد في هاوية الهوان والكوارث الاقتصاديّة.
وكمَّل على ذلك الحصار الاقتصاديّ الذي فرضته الولايات المتّحدة (بسبب المصادرة بدون تعويض). كلّ أنواع البضائع المُنتجة في تشيلي، من السّيارات وحتى معجون الأسنان، وباستثناء القاعدة الصناعية، تحمل هويّة زائفة: في أهمّ 160 شركة تشيليّة، 60 بالمئة من رأس المال كان أجنبيًا و80 بالمئة من المواد الأساسيّة أتت من الخارج. بالإضافة لذلك، احتاجت البلاد إلى 300 مليون دولار سنويًا من أجل استيراد البضائع الاستهلاكية و450 مليون دولار أخرى من أجل دفع الفوائد على دَينها الخارجي.
ولكنّ حاجات تشيلي الضروريّة كانت غير اعتيادية وكانت أعمق من ذلك بكثير. أمّا السّيدات البرجوازيّات الظريفات، تحت ذريعة التظاهر ضدّ تحصيص المؤن الغذائيّة وتصاعد التضخّم ومطالب الفقراء، خرجن للشّوارع وقرعن قدورهنّ ومقاليهنّ الفارغة احتجاجًا. ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة، بل على العكس تمامًا، ونجد دلالةَ ذلك تحديدًا في كون تظاهرةِ تلك النساء المُسنِّات الحسناوات، بقبّعاتهنّ المزهّرة وشُعورِهنَّ المَشْيبة، حصلت في الظهيرةِ ذاتها التّي أنهى فيها فيديل كاسترو زيارته التي استمرّت شهرًا كاملًا وأحدثت زلزالًا من التعبئة الاجتماعية لمناصري الحكومة.
بذرةُ الدّمار
أدرك الرئيس أييندي حينها – وقال أيضًا – أنّ الشعب يمتلك الحكومة ولكنّه لم يمتلك السّلطة بعد. كانت مقولته أشدّ مرارةً مما يبدو، وأشدّ إقلاقًا أيضًا، فَأييندي حمَلَ في داخِله جرثومةً «قانونويّة» (legalist) كمنت فيها بذرةُ دمارِه: هذا الرجل الذي قاتل حتى الموت دفاعًا عن القانونية1مبدأ القانونية: مبدأ مستنبط من الليبرالية السياسية، تبعًا له تلتزم الإدارة بأن تخضع في تصرفاتها وأعمالها لقواعد القانون النّافذ، سواء كانت قواعد ذات أصل دستوري أو تشريعي. (المصدر: قاموس المصطلحات السياسية والدستورية والدولية)، كان سيخرج من قصر لامونيدا منتصبَ القامة لو أنّ مجلس الشيوخ أزاحه عن السّلطة ضمن بنود الدستور.
حين زارته الصحفيّة والسياسيّة الإيطاليّة روزانا روزاندا في تلك الفترة، وجدت فيه رجلًا مُسِنًّا ومشدود الأعصاب ومليئًا بهواجسٍ كئيبة أثناء حديثه معها جالسًا على الأريكة ذات القماش الأصفر ذاتها التي اضطجع عليها، عقب سبعة أشهر، جسدهُ المُمزّق بالرّصاص، ووجهُه المسحوق بِكَعبِ بُندقيّة. حينها، في عشيّة انتخابات مارس 1973، حيث كان مصيرُه على المحكّ، كان سيقنع بـ 36 بالمئة من الأصوات لحزب الوحدة الشّعبية. ومع ذلك، ورغم التضخّم المتسارع، وتحصيص المؤن الغذائيّة الصّارم وحفلات القدور والمقالي الغنائيّة للزّوجات المرحات من مناطق الطبقات العليا، فقد حصل أييندي على 44 بالمئة من الأصوات. كان ذلك انتصارًا مُبهِرًا وحاسمًا حتى أنّ أييندي حين صار وحيدًا في مكتبه مع صديقه وكاتم سرّه، الصّحفي أوغوستو أوليفاريس، أغلق أييندي باب المكتب ورَقَص الكويكا لِوَحده.
بالنسبة للديموقراطيين المسيحيين، كان ذلك دليلًا على أنّ عمليّة العدالة الاجتماعية التي أطلقها ائتلاف الوحدة الشعبيّة لا يمكن عكسها باستخدامِ الطرق القانونيّة، ولكنّهم افتقروا البصيرة التّي تمكّنهم من قياس تبعات الأفعال التي ارتكبوها. وأمّا بالنسبة للولايات المتّحدة، فالانتخابات تلك كانت تحذيرًا أكثرَ خطورة، والأمر يتجاوز المصالح السطحيّة للشركات التي استحوَذ عليها. كانت تِلْكَ سابقةً غير مقبولة لتقدّمٍ سلميٍّ وتغيّرٍ اجتماعيّ تحتذي به شعوبُ العالم، بالخصوص أولئك في فرنسا وإيطاليا، حيث أتاحت الأوضاع محاولةً للقيام بتجربة على غرار تجربة تشيلي. اجتمعت أعقاب ذلك كلّ قوى الرّجعية، الداخليّة والخارجيّة، لتشكّل كُتلةً مُتراصّة الصفوف.
الاستخبارات المركزيّة الأمريكية مَوّلَت الضربة القاضية
شَكّل إضرابُ مُلّاك الشّاحنات الضربة القاضية. بسبب جغرافيا البلاد الغريبة، يقع اقتصاد تشيلي تحت رحمة قطاع النّقل، فإن أردت شلّ حركة البلاد، كل ما عليك فعله هو شلّ حركة الشاحنات. وكان من السّهل على المعارضة أن تنسّق الإضراب، وذلك لأنّ نقابة سائقي الشّاحنات كانت أكثر المجموعاتِ تأثُّرًا بشحّ قطع الغيار. بل وَوجدت النّقابة تهديدًا في برنامج الحكومة التجريبيّ الصغير العازم على توفير خدمات نقل بالشّاحنات يلائم لأقصى جنوب البلاد. استمرّ الإضراب حتّى النهاية بدون لحظة راحةٍ واحدة وذلك لأنّه مُوِّلَ من الخارج. «أمطرت وكالة الاستخباراتُ المركزية البلاد بالدولارات لدعم إضراب الرؤساء هذا و. . .وجد رأسُ المال الأجنبي طريقةً لتأسيس سوقٍ سوداء»، كتب بابلو نيرودا لصديقٍ في أوروبا. وقبل أسبوعٍ من الانقلاب، نفد الزيت والحليب والخبز من البلاد.
وأثناء آخر أيّام الوحدة الشعبية، حين انهار الاقتصاد وكانت البلاد على وشك الدّخول في حربٍ أهلية، تمحورت مناورات الحكومة والمعارضة حول أملِ تغيير موازين القوة في القوّات المسلّحة لصالحٍ أحد الطرفين. كان التحرّك الأخير هذيانيًا في كمالِه: قبل 48 ساعة من الانقلاب، تمكّنت المعارضة من تنحية كلّ الضّباط الكبار المؤيّدين لأييندي، وتعيين كلّ الضباط الذين حضروا مأدبة العشاء تلك في واشنطن، واحدًا تِلوَ الآخر، في سلسلة مناوراتٍ أغرب من الخيال.
لكن في تلك اللحظة، خرجت لعبة الشطرنج تلك عن سيطرة لاعبيها، تقتادهم جدليّةٌ لا رجعة فيها، وأصبحوا، هم أنفسهم، بيادِقًا في لعبةِ شطرنجٍ أضخم، لعبةٍ أشدُّ تعقيدًا وأهميّتها السّياسيّة أكبر من مجرّد مخطّطٍ دُبِّرَ بتنسيقٍ بين الإمبريالية والقوى الرجعية ضدّ حكومة الشّعب. بل كانت مواجهةً طبقيّةً مُروّعةً خرجت من أيدي من أوقدوا نيرانها، وَتَدافُعًا وحشيًا وشرِسًا بين مصالحٍ متضادة، والنّتيجة النهائية وَجَبَ أن تكون كارثةً اجتماعيّة لا سابقةَ لها في تاريخ الأمريكيّتين.
لن يحصُلَ انقلابٌ عسكريّ، تحت هذه الأوضاع، بدونِ دِماء. أدرك أييندي ذلك، فالقوّات المسلّحة التشيليّة تدخّلت في السياسة – على عكس ما أريد لنا الاعتقاد به – كُلّما بدى أنّ مصالحها الطبقيّة مُهدّدةٌ ونفّذت ذلك بقمعٍ وحشيٍّ مُفرط. فالدستوران اللذان مَرّا على تشيلي خلال 100 عامٍ الماضية فُرِضا بقوّة السلاح، وأمّا الانقلاب العسكريّ الأخير هذا فقد كان سادس تمرّدٍ خلال فترة 50 عامًا.
تعطّشُ الجيش التشيليّ للدّماء هو جزءٌ من طبيعة ولادته، فقد نشأ مِنْ فظاعة مدرسة القتال بالأيدي مع الهنود الأروكانيين، صراعٌ امتدّ 300 عام. وأحدُ رُوّاد هذه المدرسة تفاخرَ في عام 1620 بأنّه قتل أكثر من ألفيّ شخصٍ بيديه العاريتين أثناء عمليّةٍ واحدة. ذَكَر خواكين إدواردس بيلو في سجلّاته أنّه أثناء وباءٍ للحمى النمشيّة، اقتاد الجيشُ المرضى من منازلهم وَقَتَلهم في حمّامِ سُمٍّ، لكي ينهي الوباء. وأثناء حربٍ أهليّة استمرّت سبعة أشهرٍ في عام 1891، قتل 10 آلافِ شخصٍ في سلسلة من المواجهات الدمويّة. ويؤكد البيروفيّون الجنود التشيليين، أثناء احتلال ليما في حربِ المحيط الهادي، سلبوا مكتبة دون ريكاردو بالما، وأخذوا الكتب، ليس لقراءتها، بل من أجل تنظيف مؤخّراتهم.
تاريخٌ من الوحشيّة
قُمِعَت الحركات الشعبيّة بالوحشيّةِ ذاتها. فبعد زلزال «فالبارايسو» لعام 1907، قامت قوّات البحريّة بذبح أعضاء منظّمة عمّال الميناء المكوّنة من 8,000 عامل. وفي «إيكيكي»، مع بداية القرن، حاول المُضرِبون المتظاهرون بأن يتحصّنوا مِنْ هجمة الجنود وضُرِبوا بِرصاص الأسلحة الرّشاشة: قُتِل أكثر من 2,000 شخص خلال عشر دقائق. وفي الثاني من أبريل لعام 1957، أنهى الجيش اضطرابًا مدنيًّا في المنطقة التجارية من سانتياغو، وَعدُد الضحايا لم يُحدَّد، لأنّ الحكومة أخفت الجُثث. وأثناء إضرابٍ في منجم «إل سلفادور»، أثناء حكومة إدواردو فري، أطلقت دوريّة عسكريّة النّار على مظاهرة لأجل تفريقها، وقتلت ستّة أشخاص، من ضمنهم بعض الأطفال وامرأةٌ حامل. وكان قائد تلك الفرقة جنرالٌ غامض عمره 52 عامًا، وأبٌ لِخمس أبناء، ومدرّسُ جغرافيا، ومؤلّفٌ لعدّة كتبٍ عن موضوعاتٍ عسكريّة، اسمُه أوغوستو بينوشيه.
أمّا خرافة التزام هذا الجيش الوحشيّ بالقانون ولطافته فقد اخترعتها البرجوازية التشيليّة لخدمةِ مصالحهم. وأبقت عليها الوحدة الشعبيّة على أمل تغيير التكوين الطبقيّ لكبار كوادر الجيش لصالحها. ولكنّ أييندي أحسّ بأمانٍ أكثر تحت حماية الشرطة الوطنية، وهي قواتٌ مُسلّحة كانت شعبيّةً وذات أصولٍ فلّاحية، وكانت تحت القيادة المباشِرة لرئيس الجمهوريّة. بالفعل، اضطّرت الطغمة العسكريّة للنزول ستّ رتبٍ على سُلّم القيادة لإيجاد ضابطٍ كبير من الشرطة الوطنية مستعدٌ لدعم الانقلاب. أمّا ضُبّاطُها الشباب فقد تحصّنوا في مدرسة صغار الضّباط في سانتياغو وصمدوا لأربعة أيّام حتى قُتِلوا جميعًا.
وكانت تِلك أشهرُ معركةٍ مِنْ الحرب السّرية التي اندلعت في الثكنات العسكريّة عشيّةَ الانقلاب، حيث أنَّ الضُبّاط الذين رفضوا دعم الانقلاب، ومن رفضوا تنفيذ أوامر القمع قُتِلوا دون رحمة. فقد تمرّدت كتائبُ كاملة، في كلٍ من سانتياغو وغيرها من المناطق، وقُمِعَت من غير رحمة، وذُبِحَت قياداتها ليكون ذلك درسًا للجنود. وقائدُ الوحدات المدرّعة في «فينيا ديل مار»، الكولونيل كانتوارياس، قَتَله أتباعُه بالبندقية الأوتوماتيكية.
سيمرُّ وقتٌ طويل حتى نعرف عدَدَ قتلى تلك المذبحة الداخلية، وذلك لأنّ الجُثث أزيلت من الثكنات العسكريّة في سيّارات قمامة ودُفِنَت سرًا. إجمالًا، لم يتقلّد الثقة لقيادة الجنود الذين وقع تطهير صفوفهم مسبقًا إلّا 50 من كبار الضباط.
دور العملاء الأجانب
علينا جمع قصة المؤامرة من عدة مصادر، بعضها موثوق والبعض الآخر لا. يبدو أن عددًا غير معروفٍ من العملاء الأجانب شاركوا في الانقلاب. تخبرنا مصادر سريّة في تشيلي أنّ تفجير قصر «لا مونيدا» – قصرٌ أذهلت دِقّتُه الفنية الخبراء – نفّذه فريقٌ من الطّيارين الأمريكيين دخلوا البلد تحت غطاء العملية «يونيتاس» للمشاركة في تأدية العرض الجوي في 18 من سبتمبر القادم، اليوم الوطني لاستقلال تشيلي. ثبت أيضًا أنّ أعضاءً عدة من قوّات الشرطة السريّة من الدُول المجاورة أُدخِلوا عبر الحدود البوليفيّة، وظلوا مختبئين حتى يوم الانقلاب، وأطلقوا عنان القمع الدمويّ على اللاّجئين السياسيين من الدول الأمريكية اللاتينيّة الأخرى.
تولَّت البرازيل، الموطن الرئيس للميليشيات، قيادة هذه الخدمات. فقبل سنتين، قدمت البرازيل رّشواتٍ لتنفيذ الانقلاب الرّجعي في بوليفيا، مما أدى إلى خسارةِ مقدارٍ كبير من الدعم لتشيلي وتسهيل تسلّل كافة أنواع التخريب ووسائله. وجزءٌ من القروض التي قدمتها الولايات المتحدة للبرازيل كانت تُحوَّل سريًا إلى بوليفيا بغاية تمويل عمليات التخريب في تشيلي. وفي 1972، قامت مجموعة استشارية من الجيش الأمريكي برحلة إلى لا باز لم يُعلَن عن هدفها. لعلّها لم تكن إلّا مصادفة، ولكن لم يمر وقتٌ طويل من تلك الزيارة حتى جرت تحرّكات لمُعدّات وَجنودٍ على الحدود مع تشيلي، مما أعطى الجيش التشيلي فرصةً أخرى لتعزيز موقعه الداخليّ والقيام بنقل الكوادر والترقيات في سلسلة القيادة لمصلحة الانقلاب المحدق.
في النهاية، في 11 من سبتمبر، وأثناء «عملية يونيتاز»، نُفِّذت الخطة التي دُبِّرَت في مأدبةِ واشنطن، مُتأخّرةً ثلاث سنوات، ولكن كما تصوّروها بدقة: ليس على هيئة انقلاب ثكناتٍ تقليديٍّ، بل كعمليةٍ حربيّةٍ مدمرة.
ولم تكن لتحدث إلّا كذلك، لأن المسألة لم تكن مسألة إسقاطِ نظام فحسب، بل هي مسألة زرعِ بذورٍ مُظلِمة ظلامَ الجحيم أُتيَ بها مِنَ البرازيل، حتى لا يبقى في تشيلي أثرٌ لتلك البُنية السياسيّة والاجتماعيّة التي جعلت من وجود الوحدة الشعبيّة أمرًا ممكنًا. ولسوء الحظ، لم تكن تِلكَ إلّا بداياتِ المرحلة الصعبة.
في تلك المعركة الأخير، وقت ما كانت البلاد تحت رحمة قوى التخريب المفائجة والفوضوية، حافظَ أييندي على التزامه بالقانون. كان أشدُّ التناقضاتِ في حياته هو أنّه العدوّ الطبيعي للعنف وثوريًا شغوفًا في الوقتِ نفسه. كان يعتقد أنه قد حلَّ ذلك التناقض بافتراضِ أنّ الظروف في تشيلي ستسمح بتطورٍ طبيعيّ للاشتراكية تحت المنظومة القانونية البرجوازية. لم تعلِّمهُ التجربة، إلّا متأخرًا جدًا، أنه من غير الإمكان تغيير أي نظامٍ من طريق حكومة لا تملك سلطة.
هذا الإدراكُ المتأخر كان بالتّأكيد القوّةَ التي دَفَعَتهُ لمقاومةِ المّوت، مُدافعًا عن الحُطام المُشتعل لبيتٍ لم يكن بَيْتَه، قصرٌ كئيب كان قد بناه معماريٌ إيطالي ليكون دارًا لصكِّ النقود، وانتهى به الأمر ملجأً لرئيسٍ بلا سلطة. قاومَ لستِّ ساعات ببندقية شبه آلية أعطاها إياه كاسترو، وكان السلاح الأوّل والأخير الذي استخدمه أييندي في حياته.
في حواليّ الساعة 4 من ذلك المساء، تمكّن اللواء خافيير بالاسيوس من الوصول للطابق الثاني مع مُساعده، العقيد غالاردو، ومجموعة من الضّباط. هناك، وسط الكراسي الزميفة للويس الخامس العشر، وزهريّات التنين الصيني ورسومات روغينداز في البهو الأحمر، كان أييندي بانتظارهم. بقمصيهِ فقط، كان يرتدي خوذة عامل منجم، بلا ربطة عنق، وملابسه ملطخةٌ بالدماء. كان ممسكًا بالبندقية وكادت ذخيرته أن تنفذ.
كان أييندي يعرف اللواء بالاسيوس جيدًا. قبل ذلك بعدة أيام، كان قد أخبر أوغوستو أولفاريز أنّ هذا الشخص خطيرٌ وله اتّصالات مع السفارة الأمريكية. مجرد أن رآه على الدّرج، صرخ أييندي فيه: «خائن!» وأطلق عليه، وأصابه في يده.
قاتَلَ حتى النهاية
طبقًا لرواية شاهد عيان طلب مني عدم الإخبار باسمه، ماتّ الرئيس في تبادل للنار مع تلك العصابة. بعد ذلك أطلق كل الضّباط الآخرين، في طقس مرتبط بنظامٍ طبقيٍّ، بالإطلاق على الجثة. أخيرًا، قام ضابطٌ غير منتدب بسحق وجهه بكعبِ بندقيّته.
توجد صورة التقطها خوان إنريكي ليرا، مُصوّرٌ لصحيفة «إل ميركوريو». كان الشّخص الوحيد الذي سمح له بتصوير الجثة. كانت الجثمان مشوهًا لدرجة أنهم عندما عرضوه في الكفن على زوجته السّيدة أورتينسيا أييندي، لم يسمحوا لها بالكشف عن وجهه.
كان سيبلغ من العمر ٦٤ سنة في يوليو القادم. أعظم فضائله كانت إتمام الأمور، لكن لم يمنح له القدر سوى تلك العظمة النادرة والتراجيدية، إذ ماتَ في مفارقةٍ تاريخية في دفاعٍ مسلحٍ عن القانون البرجوازي، دفاعٌ عن المحكمة العليا التي تنصّلت منه وشرعنت قاتليه، دفاعٌ عن مجلس شيوخٍ بائس أعلن كَونَه رئيسًا غير شرعيٍّ ومِنَ ثمَّ رَكع متواطئًا أمام إرادة المُغتصِبِين، دفاعٌ عن حرية الأحزاب المُعارِضة التي باعت أرواحها للفاشيّة، دفاعٌ عن الأدوات المعثوثة لنظامٍ خرائيٍّ اقتَرَح هوَ إلغاءه بدون إطلاق رصاصة واحدة.
تلك الحبكة الدرامية التي حدثت في تشيلي، ويا لحسرة التشيليين عليها، لكنّها ستمرّ في التاريخ كشيءٍ حدث لنا جميعًا – أبناءُ هذا الزمن – وستظلّ حاضرةً في حياتنا إلى الأبد.
المصدر: نيو ستيتمان