مقدمة الهامش:
وضعت شولاميث فايرستون (1945-2012م) نصّها الكلاسيكي جدلية الجنس في منتصف عشرينيّاتها كناشطةٍ في الحراك النسوي في الستينيات والسبعينيات، ونُشِر كمداخلةٍ في جدلٍ مع النظريات اليسارية السائدة خاضته مختلف الحركات الاجتماعية المنبثقة في إحدى أشدِّ الفترات ثوريةً في القرن العشرين. هذه «التحفة المَعِيبَة» كما تصفها الباحثة والناشطة النسوية صوفي ليويس تحتوي في طياتها الأفق التي فتحتها الموجة النسوية الثانية وحدودها، فمثلما تستند إلى عيوبه تيّاراتٌ نسوية إقصائية تتحالف اليوم مع اليمين المتطرّف لقمع التَطَيُّف الجندري، تستشهدُ بتبصُّرِه التحرّري لمستقبلٍ أفضل تياراتٌ نسوية إلغائية تسعى لإضعاف روابط الدم الإجبارية (العائلة) لِصالح روابط مجتمعية تضامنية تحدُّ من طغيانِ الأسرة وأحاسيس التملُّك وممارسات التسلُّط التي تتخللها.
نقدّم هنا الفصل الأول من النص الذي يحمل عنوان الكتاب نفسه ليقدّم للقرّاء لمحةً عن الأطروحة البديعة لشولاميث فايرستون. وندرج ملاحظةً واحدة حول ترجمة مفردة (reproduction)، إذ اخترنا هنا ترجمتها إلى «إعادة إنتاج» بدلًا من التقلّب حسب فهمنا للسياق بين «إنجاب» و«إعادة إنتاج»، ليشتمل هذا الأخير على المعنيين الشائعين بما تحمله هذه العملية من إنجاب، وتربية، وإطعام وصيانة وعناية، وغيرها من الأمور، ونترك للقرّاء مهمّة فهم الأمور في سياقها.
بداية النصالطبقة الجنسية عميقةٌ جدًا لدرجة أنها غير مرئية. أو قد تظهر على شكل تفاوتٍ سطحيٍّ يمكن حلُّه ببضع إصلاحات، أو ربما بدمج المرأة إدماجًا كاملًا في القوة العاملة. ولكنّ ردة فعل عامة الناس من رجال ونساء وأطفال – «هذا؟ لا يمكنك تغيير هذا! أجننت؟» – هي الأقرب الى الحقيقة. نحن نتحدث عن شيء بهذا العمق. ردة الفعل الحدسية هذه – افتراض أن النسويّات يتحدثن، حتى عندما لا تعين ذلك، عن تغييرِ حالةٍ بيولوجية أساسية – صادقة. صعوبةُ وضعِ هذا التغيير العميق في إطارٍ فكري تقليدي، «السياسي» مثلًا، ليس سببها أن هذه الأطر لا تمتّ له بصلة، بل لأنها ليست شاملة لكلّ نواحيه بالقدر المطلوب: النسوية الراديكالية تخترِقُها جميعها. لو وجدت كلمة أكثر شمولية من الثورة، لاستخدمناها.
قبل بلوغ مرحلة معينة من التطور والوصول إلى تكنولوجيا بهذا المستوى الرفيع من التعقيد، كانت مُساءَلة الظروف البيولوجية الأساسية ضربًا من الجنون. ماذا قد يدفع امرأةً إلى التخلي عن مقعدها الثمين في العربة مقابل صراع مُدْمٍ لن يسعها حتى تمنّي الفوز به؟ لكن، للمرة الأولى في بعض البلدان، نضجت شروط الثورة النسوية – بل الوضع أمسى يتطلب ثورةً كهذه.
النساء الأوائل يهربن من المجزرة، راجفات ومترنّحات، قد بدأن بإيجاد بعضهن. خطوتهن الأولى مراقبة مشتركة حذرة لإيقاظ الوعي نائم. والأمر مؤلم هو: مهما بلغنا من مستوى عمقٍ للوعي، فالمشكلة دائمًا أعمق. إنها في كل مكان: تقسيم اليين واليانغ استشرى في الثقافة كلها، وفي التاريخ والاقتصاد، بل والطبيعة نفسها، أمّا النسخة الغربية الحديثة للتمييز على أساس الجنس ليست إلا أحدث الطبقات. ورفع منسوب استشعار الذكورية يقدّم مشاكلَ أسوء بكثير من تلك التي يقدّمها الوعي النضاليّ الأسود بالعنصرية: على النسوياتِ أن تُسائِلن، ليس الثقافة الغربية بمجملها فحسب، بل منظومة الثقافة نفسها، وأكثر من ذلك: حتى تنظيمَ الطبيعة نفسها. الكثير من النساء يستسلمن بيأس: إن كانت القضية بهذا العمق فهن لا يردن أن يعرفن. وأخرياتٌ يواصلن تعزيز الحركة وتوسيعها، ولاستشعارهن المؤلم لِاضطهاد الأنثى هدف: القضاء عليه في نهاية المطاف.
ولكن، قبل أن نحاول تغيير وضعًا ما، علينا أن نفهم كيف نشأت وتطورت، والمؤسسات التي تعمل من خلالها. يقول إنجلز: «[علينا] دراسة التعاقب التاريخي للأحداث التي منها ولدت الخصومة، لنتمكن – من خلال هذه الشروط التي خُلِقَت – اكتشاف الوسيلة لإنهاء الصراع». ولكي تندلع ثورةٌ نسوية، سنحتاج تحليلًا شاملًا لدينامية الحرب الجنسية بمستوى شموليةِ تحليل ماركس-إنجلز للخصومة الطبقي بالنسبة إلى الثورة الاقتصادية، بل وتحليلٌ أشمل، فنحن نتعامل مع مشكلة أكبر: اضطهادٌ يعود إلى زمن ما قبل التاريخ، إلى مملكة الحيوان نفسها.
بخلقنا هذا التحليل، يمكننا تعلم الكثير من ماركس وإنجلز، وليس رأيهما المباشر بالنساء، بوضعهن كطبقةٍ مضطهدَةٍ فمعرفتهما بذلك تكاد تنعدم، واعترافهما به اقتصر على نقطة تلاقيه مع الاقتصاد، بل منهجهما التحليلي.
تفوّق كلٌ من ماركس وإنجلز على سابقيهم مِنَ الاشتراكيين بوضعهما منهج تحليل جمعَ الجدليّة والمادّية. ولكونهم أول من حلل التاريخ جدليًّا منذ قرونٍ طويلة، فقد رأوا العالم كعمليةٍ وتدفّقٍ طبيعيٍّ من الفعل ورد الفعل، ومن الأضداد المتداخلة والمتلازمة. ولأنهما استطاعا رؤية التاريخ كفيلم بدل رؤيته كلقطةٍ، فقد حاولا تجنّب الوقوع في فخ التفسير «ما-وراء الطبيعي» الذي وقعت فيه الكثير من العقول العظيمة (وقد يكون هذا النوع من التحليل وليد التقسيم الجنسي الذي سنناقشه في الفصل 9). وقد جمعا هذه الرؤية عن التفاعل الديناميكي للقوى التاريخية برؤية مادية. أو بعبارةٍ أخرى، لقد حاولا للمرة الأولى وضع التغيرات التاريخية والثقافية على أُسُسٍ واقعية، مُعزَّين تطور الطبقات الاقتصادية إلى أسباب مادية. بِفهمهم العميق لميكانيكا التاريخ، أرادوا تعليم البشر-الرجال السيطرة عليه.
لم يتمكّن المفكرون الاشتراكيون قبل ماركس وإنجلز – مثل فورييه وَأوين وَبيبيل – من مناقشة التفاوتات الاجتماعية القائمة إلّا بالخطاب الأخلاقي، مقترحين عالمًا مثاليًّا حيث لا وجود للامتيازات الطبقية أو الاستغلال الطبقي يتحقق بالنوايا الحسنة لا غير – بنفس الطريقة التي تخيلت فيها المفكرات النسويّات الأوائل عالمًا لا وجود فيه للذكورية والاستغلال. بكلتا الحالتين، لأن المفكرين والمفكّرات لم يفهموا كيفية تطور الظلم الاجتماعي، أو كيف حافظ على نفسه، أو كيف يمكن القضاء عليه، سبحت أفكارهن في فضاء ثقافي فارغ، في «المدينة الفاضلة». في المقابل، حاول ماركس وإنجلز مقاربة التاريخ بمنهجية علمية، وأحالا الصراع الطبقي إلى أُسُسِه الاقتصادية الحقيقية، طارحَين حلًّا اقتصاديًّا مبنيًّا على شروط مسبقة اقتصادية موجودة أصلًا: سيطرة البروليتاريا على وسائل الإنتاج ستؤدي إلى الشيوعية، حيث تكون الدولة قد اضمحلّت، لعدم الحاجة لها لقمع الطبقات الدنيا في خدمة الطبقات العليا. ففي مجتمع لاطبقي، مصالح كلّ فردٍ ستكون مرادفةً لمصالح المجتمع الأوسع.
لكن عقيدة المادية التاريخية، رغم ما تضمنت من تقدّمٍ بديعٍ على التحليلات التاريخية السابقة، فهي لم تكن حلًّا كاملًا كما أظهرت الأحداث لاحقًا. فمع أن ماركس وإنجلز غرسا نظريتهما في أرض الواقع، إلا أن ذلك الواقع كان جزئيًّا. فهذا هو تعريف إنجلز الاقتصادي حصرًا للمادية التاريخية، من كتاب الاشتراكية: طوباوية أم علمية:
المادية التاريخية هي تلك الرؤية لمسار التاريخ التي تبحث عن السبب النهائي والقوة المحرّكة لجميع الأحداث التاريخية في التطور الاقتصادي للمجتمع، وفي تغيرات في بلاط أنماط الإنتاج والمبادلة، وفيما نتج من تقسيمٍ للمجتمع إلى طبقاتٍ متمايزة، وفي الصراعات التي تخوضها هذه الطبقات ضد بعضها البعض. (العريض مُضاف)
ويزعم إنجلز بالإضافة إلى ذلك:
. . . إن كل التاريخ الذي سبق – باستثناء المرحلة البدائية – كان تاريخ صراعاتٍ طبقية، إن هذه الطبقات الاجتماعية المتحاربة هي دائمًا ناتجةٌ عن أنماط الإنتاج والمبادلة، أو بكلمة: عن الشروط الاقتصادية لزمانها؛ إن البنى الاقتصادية للمجتمع دائمًا ما تضع الأساس الحقيقي، الذي من عليه فقط نقد على استخلاص التفسير النهائي للبنية الفوقية من المؤسسات التشريعية والسياسية، بل ومن الأفكار الفلسفية والدينية لحقبة تاريخية محددة. (العريض مُضاف)
سيكون من الخطأ محاولة تفسير اضطهاد النساء اعتمادًا على هذه النظرية الاقتصادية حصرًا. فالتحليل الطبقي عملٌ جميل، لكنّه محدود، وغم صحّته بالمعنى الخطّي، فهو ليس عميقًا بالقدر المطلوب. فللجدلية التاريخية طبقةٌ دنيا جنسية يلمحها إنجلز أحيانًا لمحةً باهتة، ولأنه لا يرى الجنس إلّا من خلال مصفاةٍ اقتصادية، مُختزِلًا كل شيء فيها، يعجز عن إعطاء الأمور حقها في التقييم.
لاحَظَ إنجلز أنّ الانقسام الأول للعمل كان بين الرجل والمرأة لهدف تربية الأولاد، وأن الرجل كان المالِك في العائلة، والزوجة هي وسيلة الإنتاج، والأطفال هم العمل، وأن إعادة إنتاج الجنس البشري كانت نظامًا اقتصاديًّا مهمًا مميزًا عن وسائل الإنتاج.
لكن إنجلز نال تقديرًا مبالغًا مقابلَ اعترافاته المبعثرة باضطهاد النساء كطبقة. وفي الواقع، لم يعترف إنجلز بالمنظومة الطبقية الجنسية إلا في تقاطعها مع بنيتها الاقتصادية وتوضيحها لها، وحتى في هذا لم يبرع إنجلز، وأما ماركس فقد كان أسوأ، وتحيّزُ ماركس ضد المرأة يلاقي اعترافًا متنامٍ (تحيزٌ ثقافيٌّ شارَكه فيه فرويد وغيره من رجال الثقافة)، ما يجعل من الخطر محاولة إقحام النسويّة في إطار ماركسي أورثودوكسي، أي إنْ جمّدنا التبصُّرات العرضية لِماركس وإنجلز بشأن الطبقة الجنسية إلى مستوى العقيدة. وعلينا عوضًا عن ذلك توسعة المادّية التاريخية لتشمل الماركسي حصرًا، بنفس الطريقة التي لم تدحض بها الفيزياءُ النسبية الفيزياءَ النيوتنيّة بل أحالتها إلى حقلٍ أصغر، ما يقلّص حدود تطبيقها، بالمقارنة فقط. فالتشخيص الاقتصادي المستند إلى ملكية وسائل الإنتاج – أو حتى وسائل إعادة الإنتاج – لن يقدّم تفسيرًا لكل شيء. فللواقع مستوىً لا يتفرّع مباشرةً من الاقتصاديّات.
غالبًا ما يتلقّى افتراضُ أنّ الواقع – تحت الاقتصاديّات – واقعٌ سيكولوجي-جنسي رفضًا بصفته لاتاريخي، ورفضهُ أولئك الذين يقبلون بِرؤية جدلية مادية للتاريخ لأنه افتراض يبدو وكأنه يردّنا إلى حيث بدأ ماركس: البحث في غمامة من الفرضيات الطوباوية، عن نظمٍ فلسفية لربما تكون صائبة ولربما تكون خاطئة (فلا طريقة للتأكد)، وعن نظمٍ تشرح التطورات التاريخية الملموسة بِتصنيفاتٍ قَبْليّةٍ للفِكر، لكن المادية التاريخية استهدفت تفسير «أن تعرف» بـ «أن تكون» وليس العكس.
ولكن يوجد بديلٌ ثالثٌ لم يجرّب بعد: يمكننا محاولة تطوير رؤية مادية للتاريخ مستندة إلى الجنس نفسه.
انتهجت المُنَظِّرَات النسويات الأوائل مقاربةً ماديةً للجنس أشبهُ بِمقاربةِ فورييه وبيبل وأوين لتفسير للطبقة. وبشكلٍ عام، لم تكن النظرية النسوية لائقةً مثلها مثل المحاولات النسوية الأولى لتصحيح الوضع الذكوري. وليس ذلك بالغريب، فالمشكلة من العمق بمكان حتى أنه لن يسع محاولةً أولى إلّا كشف القشور ووصف أوضح تجليات اللامساواة. كانت سيمون دي بوفوار الوحيدة التي اقتربت من تقديمٍ التحليل الحاسم، ولعلّها قد حققت ذلك، فكتابُها العميق الجنس الآخر، الذي نُشِر قبل وقتٍ قصيرٍ في أوائل الخمسينيات وفاجأ عالمًا كان يعتقد أنّ النسوية ماتت، حاول للمرة الأولى أنْ يرسي النسوية على أساسها التاريخي. من بين كل المُنَظِّراتِ النسويات كانت دي بوفوار الأشمل والأوسع، وربطت النسوية بأفضل أفكار ثقافتنا.
وهذه الفضيلة قد تكون عيبها الوحيد أيضًا: إنها تكادُ تكون مثقفةً وعارفةً أكثر من اللازم، وذلك يتحول إلى نقطة ضعفٍ – ولربما لا تكون كذلك – عندما تفسّر النسوية من منطلقٍ وجوديٍّ جامدٍ (يتسائل البعض عن علاقة سارتر بهذا). وهذا على ضوء حقيقة أنّ جميع النظم الثقافية، بما فيها الوجودية، هي نفسها تحدّدها الثنائية الجنسية. تقول دي بوفوار:
الرجل لا يفكّر بنفسه أبدًا دون التفكير بالآخر. إنه يرى العالم من رمزِ ثنائيةٍ لا تكون في بادئ الأمر ذو سمةٍ جنسية. ولكنّ كونها مختلفة عن الرجل، الذي ينصّب نفسه «المِثل»، سيكون من الطبيعي أن تُوضَع المرأة في صنف «الآخر». هذا «الآخر» يحوي المرأة. (العريض مُضاف)
لعلها رمت أبعد من هدفها: لِمَ التسليم بمفهوم هيغيلي أساسيٍّ عن «الآخر» كالتفسير النهائي، ومن ثم توثيق الظروف البيولوجية والتاريخية التي دفعت طبقة «النساء» إلى خانة «الآخر» – في حين لم يحصل أنْ ينظر أحدٌ بِجدية في احتمالٍ أرجح وأبسط، وهو أن هذه الثنائية الأساسية نبعت من التقسيم الجنسي نفسه؟ إنّ التسليم بأصناف قبْلية للفكر والوجود – «الآخَرية»، و«المفارقة» و«المحايثة»1المحايثة (immanence): أصل الكلمة اللاتيني يعني «المكوث في». تستعمل في الفلسفة لوصف ما هو موجود في العالم الحسّي وليس مفارق له، في مقابل المفارقة (transcendence): تستخدم لوصف كل ما يتخطى العالم الحسي نحو حالة خارقة. يستعمل المصطلحان في الثيولوجيا لوصف الله: مفارقًا عند الحديث عن وجوده خارج نطاق العالم الحسّي ومحايثًا عند الحديث عن تجلياته في هذا العالم. – ليندرج التاريخ تحتها لاحقًا قد لا يكون أمرًا ضروريًّا. اكتشفَ كلٌ من ماركس وإنجلز سابقًا أنّ هذه الأصناف الفلسفية نشأت من التاريخ.
قبل التسليم بهذه الأصناف، فلنحاول ابتداءً تطوير تحليل حيث البيولوجيا نفسها – الإنجاب – تقع في أصل الثنائية. فلعلّ الافتراض الحدسيِّ للعوام القائل بأن تقسيم غير المتساوي للجنسين أمر «طبيعي» له أساسٌ من الصحة. وعلينا التريث قبل تجاهل ذلك، فالطبقة الجنسية – على النقيض من الطبقة الاقتصادية – وليدةُ واقعٍ بيولوجيٍّ: الرجل والمرأة خُلقا مختلفين وغير متساويَين. ولكن هذا الاختلاف – كما أشارت دي بوفوار – لم يستلزم توليد منظومةٍ طبقيّةٍ (سيطرةُ مجموعةٍ على أخرى) بل وظائف إعادة الإنتاج التي تنطوي عليها هذه الاختلافات هي ما استلزم ذلك. فالعائلة البيولوجية طبيعتها توزيعٌ لامتساوٍ للسلطة. والحاجة للسلطة التي أدّت الى نشوء الطبقات هي حصيلة التكوين النفسي-الجنسي لكل فرد وفقَ عدم الاتزان الأساسي هذا، وليس كما افترض فرويد أو نورمان براون، وغيرهم ممن رموا أبعد من الهدف، بأن السبب كان الصراع الأبدي للحياة ضد الموت أو لِإيروس ضد ثانتوس.
كانت الأسرة البيولوجية – الوحدة المعيدة للإنتاج الأساسية المكونة من الذكر/الأنثى/الرضيع – بأي شكل من التنظيم الاجتماعي تتميز بهذه الحقائق الأساسية، بل ولربما الثابتة:
- كانت النساء على مر التاريخ، وقبل بزوغ منظِّمات الحمل، تحت رحمة بيولوجيّتهن – الحيض، انقطاع الطمث، «الأوجاع النسائية»، آلام الإنجاب الدائمة، ورضاعة الرضّع ورعايتهم، ما جعلهن متِّكَلاتٍ على الذكور (الأخ، أو الأب، أو الزوج، أو الحبيب، أو القبيلة، أو الحكومة، أو الجماعة بشكل عام) من أجل البقاء الجسدي.
- يحتاج رُضّع البشر إلى وقت أطول للنمو مقارنة بالحيوانات، وهم بالتالي عاجزون، ولفترةٍ قصيرةٍ على الأقل متِّكلون على البالغين من أجل البقاء.
- لقد وجد الاعتماد المتبادل الأساسي للأم/الطفل في كل المجتمعات – ولو بأشكال مختلفة – في الماضي أو الحاضر، ولذلك شكَّلَ سيكولوجية كلّ أنثى بالغة وكل رضيع.
- إن الاختلاف التناسلي الطبيعي بين الجنسين أدى مباشرة إلى أول تقسيم للعمل في أصل الطبقة، وقد وضع الأسس لنموذج الطوائف الطبقية (التمييز على أساس الخصائص البيولوجية).
وهذه المرتهنات البيولوجية للعائلة البشرية لا يمكن أن تحجبها السفسطة الأنثروبولوجية. فمن يراقب تزاوج الحيوانات وإنجابها ورعايتها لأطفالها سيجد صعوبة في تقبل مزاعم «النسبية الثقافية». فَبغضّ النظر عن عدد القبائل التي قد تجدها في أوقيانيا حيث صلة الأب بالإخصاب مجهولة، وبغضّ النظر عن عدد حالات النسب الأمومي، وبغضّ النظر عن عدد حالات عكس الأدوار الجنسية، أو أرباب المنازل الذكور، أو حالات آلام المخاض التضامني – هذه الحقائق تثبت شيئًا واحدًا: المرونة المذهلة للطبيعة البشرية. لكن الطبيعة البشرية قابلة للتكيّف مع شيءٍ ما، وهو، نعم، تحدِّدُه شروطها البيئية. والعائلة البيولوجية التي وصفناها موجودة في كل مكان على مر الزمان. فحتى في النظم الأمومية حيث خصوبة المرأة مقدّسة، ودور الرجل مجهول أو غير مهم، يظلُّ اعتماد الأنثى والطفل على الذكر قائمًا حتى لو لم يكن الأب الجيني. ورغم حقيقة كون نشأة العائلة النووية نشأة حديثة – وسأحاول أن أثبت لاحقًا أنّ نشأتها تزيد من سوء التبعات السيكولوجية للأسرة البيولوجية – ومع حقيقة وجود تنوعات عديدة لهذه العائلة البيولوجية على مر التاريخ، فالمرتهنات التي وصفتها استبدَّت، واستحوذت على وسائل الإنتاج، ما سبب انحرافاتٍ نفسية-جنسية في الشخصية الإنسانية.
لكن التسليم بأنّ اللاتوازن الجنسي في ميزان القوى سببه بيولوجي لا يعني أننا خسرنا قضيتنا. لم نعُدْ مجرد حيوانات. وليس حكمُ مملكةِ الطبيعة مطلقًا. وكما اعترفت سيمون دي بوفوار نفسها:
نظرية المادية التاريخية أبرزت بعض الحقائق المهمة. فالبشرية ليست جنسًا حيوانيًا، إنما واقعٌ تاريخي. المجتمع البشري معاكس للطبيعة (anti-physis) – إنه لا يخضَع لحضور الطبيعة ساكنًا، بل يأخذ على عاتقه التحكم بها. هذا التطاول ليس عملية داخلية ذاتية، بل يجري بصورة موضوعية في النشاط العملي.
وبالتالي، فـ «الطبيعية» ليست بالضرورة قيمةً «إنسانية». الإنسانية بدأت بتخطي الطبيعة: لم يعد بإمكاننا تبريرُ بقاءِ منظومة الطبقة الجنسية التمييزية بذريعة رجوع أصلها إلى الطبيعة. بل ولأسبابٍ برغماتية لا غير، الحال يبدو أنّ علينا التخلص منها (أنظر الفصل 10).
تُصبح المشكلة سياسيةً، ما تستلزمه لا يقف عند تحليل تاريخي شامل، فنحن ننتبه إلى تنامي قدرة الرجل على تحرير نفسه من الشروط البيولوجية التي خلقت طغيانه على النساء والأطفال، إلّا أنه لا يملك أي سبب يدفعه للتخلي عن هذا الطغيان. فكما قال إنجلز في معرض حديثه عن الثورة الاقتصادية:
إنّ قانون تقسيم العمل هو ما يشكّل قاعدة الانقسام إلى طبقات. [لاحظ أن هذا التقسيم نفسه نتاج تقسيم بيولوجي]. لكنّ هذا لا يمنع الطبقة الحاكمة، حالما تكون لها اليد العليا، من توطيد سلطتها على حساب الطبقة العاملة وتحويل قيادتها الاجتماعية إلى استغلال مكثف للجماهير.
رغم احتمالية كون المنظومة الطبقية الجنسية قد نشأت في شروط بيولوجية أساسية، فذلك لا يضمن حرية النساء والأطفال متى ما اختفت هذه القاعدة البيولوجية للاضطهاد. بل على العكس، فالتكنولوجيا الحديثة وتقنيات ضبط الخصوبة على وجه التحديد قد تُستخَدم ضدهما لتدعيم نظام الاستغلال الراسخ.
فمثلما أن ضمان القضاء على الطبقات الاقتصادية يتطلب ثورة الطبقة الدنيا (البروليتاريا) واستحواذها على وسائل الإنتاج في ديكتاتورية مؤقتة، فضمانُ القضاء على الطبقات الجنسية يتطلب ثورةَ الطبقة الدنيا (النساء)، واستحواذهن على وسائل إعادة الإنتاج وتحكّمهن بها: لا يقف ذلك عند استرداد النساء الكامل لِملكية أجسادهن، بل الاستحواذ (المؤقت) على الخصوبة البشرية – بيولوجية السّكان بالإضافة إلى جميع مُؤسّسات الإنجاب وتربية الأطفال. ومثلما أن الهدف النهائي للثورة الاشتراكية ليس إلغاء الامتيازات الاقتصادية الطبقية فحسب بل التمايز الطبقي نفسه، فالهدف النهائي للثورة النسوية يجب أن يكون – خلافًا لهدف الحركة النسوية الأولى – ليس إلغاء الامتياز الذكوري فحسب بل إلغاء التمايز الجنسي نفسه: اختلاف الأعضاء التناسلية بين الكائنات البشرية لن يعود ذو أهمية ثقافيًّا. (عودةٌ إلى الميول الجنسي الشامل – ما يصفه فرويد بـ «الانحراف متعدد الأشكال» – سيحلّ على الأغلب محلّ الغيرية/المثلية/الثنائية). وإعادة إنتاج الجنس البشري عبر جنسٍ واحد لمصلحة الجنسين سيُبدَّل بالتناسل الصناعي (من بين خيارات أخرى على الأقل): سينجب الجنسان الأطفال بشكل متساوٍ أو بشكل مستقلٍ عن كلٍ منهما، اعتمادًا على نظرة الواحد/ة. اعتمادُ الطفل على الأم (والعكس) سيُفسِح الطريق لاعتمادٍ أقصر على مجموعةٍ صغيرة من الآخرين بشكلٍ عام، وأيُّ دونيّةٍ في القوة الجسديّة مقابل البالغين ستعوّض ثقافيًّا. وتقسيمُ العمل سينتهي بإنهاء العمل عن بكرةِ أبيه (عبر الضّبط الآلي الأوتوماتيكي2الضبط الآلي الأوتوماتيكي (cybernation): التحكّم الأوتوماتيكي لعمليّة الإنتاج عبر الأجهزة الآليّة.). سينكسر هكذا طغيان الأسرة البيولوجية.
وستنكسر معه سيكولوجية السلطة. فكما وصف إنجلز الثورة الاشتراكية حصرًا: «الأمر ليس أنّ وجود هذه الطبقة الحاكمة أو تلك فحسب أمرٌ عفا عليه الزمن، بل وجود أيِّ طبقة حاكمة على الإطلاق». كونُ الاشتراكية لم تقترب من تحقيق هذا الهدف المتوقع لم يكن نتيجة شروطٍ مسبقة اقتصادية لم تنضج أو أخفقت فحسب، بل ونتيجةَ قصور التحليل الماركسي نفسه: التحليل لم يحفر عميقًا في بحثه عن الجذور النفسية-الجنسية للطبقة. لقد كان ماركس على طريق اكتشاف ما هو أعمق مما كان يعلم عندما لاحظ أن العائلة تحوي في ذاتها جميع التناقضات التي تتطوّر فيما بعد على نطاق واسع داخل المجتمع والدولة. ما لم تقتلع الثورة التنظيم الاجتماعي الأساس، العائلة البيولوجية – النافذُ الذي يتيح دائمًا تهريبَ سيكولوجية السلطة – لا يمكن القضاء على الدودة الشريطية للاستغلال. ننحن بحاجة إلى ثورةٍ جنسية أكبر بكثيرٍ من ثورةٍ اشتراكية – أو تحتويها – لتجتثَّ جميع النظم الطبقية حقًّا.
حاولت التقدّم بالتحليل الطبقي خطوةً إلى الأمام نحو جذوره في التقسيم البيولوجي للجنسين. لم نتخلص من تبصُّراتِ الاشتراكيين والاشتراكيات، بل على العكس: يمكن للنسوية الراديكالية توسيع تحليلهم ومنحه أساسًا أعمق في شروطٍ موضوعية، ما يفسِّر الكثير من مستعصياته. وكخطوة أولى في هذا الاتجاه، وكأساسٍ لتحليلنا، علينا توسيع تعريف إنجلز للمادية لتاريخية. وأقدّم هنا نفس التعريف الذي ورد أعلاه معادًا صياغته ليشمل التقسيم البيولوجي للجنسين بهدف إعادة الإنتاج، الذي يقع في أصل الطبقة:
المادية التاريخية هي تلك الرؤية لمسار التاريخ التي تبحث عن السبب النهائي والقوة الدافعة لكافة الأحداث التاريخية في جدلية الجنس: انقسام المجتمع إلى طبقتين بيولوجيتين بهدف إعادة الإنتاج الإنجابية وصراع هاتين الطبقتين مع بعضهما البعض، وفي تغيرات أنماط الزواج وإعادة الإنتاج والعناية بالطفل الناتجة عن هذه الصراعات، وفي التطور المترابط لطبقات [طوائف] مفرَّقةٍ-جسديًّا، وفي التقسيم الأول للعمل على أساس الجنس الذي تحوّل إلى المنظومة الطبقية [الاقتصادية-الثقافية].
وها هي البنية الفوقية الثقافية، وتلك الاقتصادية، لا تُعزّى إلى الطبقة الاقتصادية فحسب بل إلى ما يتجاوز ذلك بعيدًا، إلى الجنس:
كل التاريخ الذي سبق [لاحظ أنه أصبح بإمكاننا الآن حذف عبارة «باستثناء المرحلة البدائية»] كانَ تاريخ صراعٍ طبقي. هذه الطبقات الاجتماعية المتحاربة هي دائمًا وليدة أنماطِ تنظيم وحدة الأسرة البيولوجية بهدف إعادة إنتاج الجنس، بالإضافة إلى الأنماط الاقتصادية حصرًا لإنتاج البضائع والخدمات ومقايضتها. يضع التنظيم الجنسي-المعيد-للإنتاج للمجتمع دائمًا القاعدة النهائية التي منها وحدها يمكننا صوغ التفسير النهائي للبنية الفوقية من مؤسساتٍ اقتصادية وقضائية وسياسية، بالإضافة إلى الأفكار الفلسفية والدينية لحقبة تاريخية محددة.
والآن، توقعات إنجلز لنتائج المقاربة المادية للتاريخ أصبحت أكثر واقعية:
ستخضع شروط الحياة المبيِّئة للإنسان، التي سيطرت عليه من قبل، إلى سيطرةِ الإنسان ورقابته، الذي يصبح للمرة الأولى سّيد الطبيعة الواعي حقًّا، سيّد تنظيمه الاجتماعي.
في الفصول التالية، سنفترض هذا التعريف للمادية التاريخية في فحصنا في المؤسسات الثقافية التي تصون العائلة البيولوجية وتعززها (خاصة تجليّاتها الحالية: العائلة النووية) ونتيجتها: سيكولوجية السلطة، والشوفينية العدائية التي تطوّرت لمرحلة تخوّلها القضاء علينا. وعلينا دمج هذا مع التحليل النسوي للفرويدية، فالانحياز الثقافي لفرويد، مثله مثل ماركس وإنجلز، لا يُبطل تصوّره بالكامل. بل الواقع أنّ أفكار فرويد ذات قيمة أكبر من أفكار المنظّرين الاشتراكيين عند بناء مادية جدلية جديدة على أساس الجنس. سنحاول ربطَ أفضل ما قدمه إنجلز وماركس (منهج المادية التاريخية) بأفضل ما قدمه فرويد (فهمه لمكنون الرجل والمرأة وما يشكُّلهما) للوصول إلى حلٍّ سياسيٍّ وشخصيٍّ وفي نفس الوقت واقعيٍّ. سنرى أنّ فرويد أصاب في فحصه ديناميات السيكولوجيا في سياقها الاجتماعي المباشر، لكن لأن البنية الأساسية لذاك السياق الاجتماعي أساسيّةٌ – بدرجات متفاوتة – للإنسانية جمعاء أبداها ذلك كشرطٍ وجوديٍّ مطلقٍ من الجنون مناقشته، ما جعل فرويد والكثير من أتباعه مُجبَرين على التّسليم بمفاهيم قبْلِيّة كـ «غريزة الموت» لتفسير أصل هذه الدوافع النفسية الكونية. هذا بدوره جعل أمراض البشرية غير قابلة للإلغاء أو الشفاء – ولهذا السبب حلّه المقترح (العلاج بالتحليل النفسي) كان ضعيفًا جدًا مقارنة بباقي عمله وكان فشلًا مدويًا – ما دفع من يتمتعون ويتمتعن بحس اجتماعي/سياسي إلى رفض حله العلاجي بل ومعه أهم اكتشافاته.