مقدمة المترجِم:
في 15 يوليو عام 2020، توفي المفكر والمناضل الكونغولي إرنست وامبا ديا وامبا، بعد أن كرّس حياته في العمل على التحرر الأفريقي والتفكير بِسُبلِه، وتحمّل ما لازمه هذا الالتزام من سجنٍ وتعذيب، ومحاولات اغتيالٍ عدّة أثناء قيادته لـ «التجمّع لأجل الديمقراطية الكونغولية» في حرب الكونغو الثانية، وانطلق في عمله وتفكيره وتنظيره من مبدأ أنّ تحرّر الناس لن يقوم به إلّا الناس أنفسهم، و، مستشهدًا بالفيلسوف الفرنسي سيلفيان لازاروس، أنّ أساس الفكر والعمل السياسي، هو أنّ «الناس تفكّر».
وُلِد وامبا لعائلة فلّاحية في 16 أبريل 1942 في ما عرفَ وقتها بـ «الكونغو البلجيكية» منغمسًا أثناء ذلك في التقاليد المحلّية أثناء تصاعد الحراك لأجل الاستقلال، الناجز في 1960، حيث بلغ يومها 18 عامًا، أي بعد أربعة أعوام من بدئه المشاركة السياسية عندما انتُخب رئيسًا لنقابة المعلّمين في سن 14 أثناء تدريسه اللغة الفرنسية للمرضات في كلية الطب.
وبعد حصوله على منحة دراسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية لم يوقف وامبا أعماله، بل شارك في حركة العمل الأسود كجزءٍ من حراك التحرر الأسود في الستينيات، وارتبط هناك بقادة الحراك، مثل كوامي توري، وعاد للكونغو المستقلة ليدخل في سلك الخدمة المدنية، ليذهب بعدها إلى فرنسا حيث تلاقى وانخرط سياسيًّا مع فلاسفة آخرين مثل آلان باديو وسيلفيان لازاروس، ليتجه بعدها إلى تنزانيا ليدرس بجامعة دار السلام.
وبعد سنوات الترحال الطويل، عاد إلى الكونغو (زائير حينها) ديسمبر 1982، حيث اعتقل بسبب حمله مسودة ورقة ينتقد فيها فكرة «الأصالة» التي روج لها الرئيس موبوتو سيسي سيكو كأساسٍ للقومية الأفريقية، ورأى فيها وامبا محض مفهومٍ استعماريٍّ جديد.
ولم يكن وامبا ناقدًا فحسب، بل شارك في محاولاتٍ لتغيير نظام الحكم في 1991، أحبط بعضها التدخل الأمريكي لدعم نظام موبوتو، وهذا بعد أن رشّح قائدًا توافقيًّا للتجمع لأجل الديمقراطية الكونغولية، الذي جمع مختلف أطياف المعارضة، وأريد له أن يكون شخصيّةً رئاسية مقبولة لدى الجميع، وقبل بها متردّدًا لإحساسه بالواجب تجاه شعبه، ليصبح قائدًا عسكريًّا للفصيل الديمقراطي المنبثق عن التجمع في نهاية العقد، مؤكدًا على ضرورةِ التشجيع على بناء حركةٍ ديمقراطية شعبية لمحاربة عسكرةِ الدولة والمعارضة.
في وجه الأزمات التي واجهتها الكونغو، من تدخلٍ خارجيٍّ وحروب وتقويضٍ تام للاستقلال، اتجه «البروفيسور المناضِل»، كما سمّي لاحقًا، إلى مساءلة نموذج الديمقراطية الذي شاع في الثمانينيات بين المثقفين الأفريقيين، أي نموذج منظومة التعددية الحزبية، أو كما يسمّيها وامبا: منظومة «أحزاب-الدولة»، الأمر الذي انطبع على مختلف الجماعات والأحزاب اليسارية في ذلك الوقت وحتى وقتنا هذا.
يشكك وامبا في فعالية هذا النموذج، مستندًا إلى التجارب الفاشلة سابقًا، ومشيرًا إلى ضرورة التحقيق في مسألة كون «المستعمِرين الراحلين الذين كانت دولتهم الاستعمارية النقيض الكامل للنمط البرلماني للسياسة، كانوا الجهة التي دفعت نحو نوعٍ من أنواع هذا الشكل عبر أطرٍ دستورية فصَّلوها للبلدان المستقلة حديثًا».
وهذا المطلب، كما يشير في نصٍّ آخر، هو مطلب «تعديلِ شكلِ الحكم الطبقي، أي شكلُ الارتباط أو الشراكة في التقاسُم الممكن للمصالح الطبقية، بدلًا من بناءِ تضامنٍ للجماعة يستهدف تقييد الطبقة الحاكمة»، ما يقصي أغلبية الناس ممن لن يتاح لهم تقاسُم المصالح الطبقية مع الطبقة الحاكِمة.
اعتقد وامبا أن عمومَ أفريقيا ظلت رهينة رأسماليةٍ افتراسيةٍ عذَّبتِ القارة تعذيبًا ممنهجًا، ودعا لمراجعة تاريخ القارّة، وخصوصًا الحركات المناهضة للاستعمار في مطلع القرن العشرين وتوقّعاتها للمستقبل، إذ توقّع القائد الديني سيمون كيمبانغو، مثلًا، أنّ قادة ما بعد الاستقلال سيتصفون بالفساد والخضوع للهيمنة الغربية، وهذه القراءات حفزت وامبا لـ «الإصرار على تحصيل المعرفة كنشاطٍ جماعي، لا نشاطٍ فردي، وعلى التفكير الجدلي، بإدراك التناقضات والتقسيمات واتجاهاتها المستقبلية»، كما يشير صديقه وزميله مايكل نيوكوزموس.
كان شاغل وامبا الأساس،، هو «إنتاج الوحدة الجماعية»، عَبْر العمل لأجل الصالح العام، بدل أن تكون الدولة خادمةَ مصالح الاستعمار الجديد في وجه الناس، وأكد على ما يستلزمه ذلك من ضرورة «التنظيمات الشعبية المستقلة في السياسات الانعتاقية»، وضرورة ذلك لتجاوز الدول القطرية المفروضة استعماريًّا، فبدون تنظيم ديمقراطي شعبي، «الوحدة الأفريقية مستحيلة، وسيحكم على أفريقيا بالعيش كأراضٍ مشظّاة تحت الاستعمار الجديد».
ولمقاومة ذلك، عاد وامبا إلى ما جربه من تقاليد ديمقراطية محلية، وتحديدًا يشير هنا إلى «البالافير» (Palaver)، فعاليّاتٌ مجتمعية يفتح فيها حقّ المساءلة والنقد والنقد الذاتي لجميع الناس بمختلف الأعمار والأجناس والمنازل الاجتماعية، دون خوفٌ من مناقشة حتى المواضيع المستنكرة، ذلك سعيًّا لحل التناقضات بين الناس وللتقدم بالمجتمع ككل بموجب توافقٍ واضحٍ وصريح بين أفراده.
وهذه الشواغل والأهداف حاضرةٌ في هذا النص أدناه، حيث يستشرف وامبا المأزق الذي واجهته أفريقيا (ولنا هنا أن نعمم أيضًا): مأزقُ انتهاء صلاحية ما يسمّيه لازاروس بالأنماط السياسة السائدة، ونمط السياسة كما يعرفه وامبا هو «الطريقة التي تشتغل فيها السياسةُ كسيرورة، وكنظامٍ لاتخاذ القرار، وكممارسات وأيديولوجية تستبطنها في هذه السيرورة»، مع ميل الأحزاب السياسية اليسارية والشيوعية عمومًا إلى هجرِ ما يسمّيه وامبا بـ «النمط الستاليني للسياسة» أواخر الثمانينيات ومع سقوط الاتحاد السوفياتي، واتجاهها إلى ما اعتُقِد أنّه النموذج الناجح، («النمط البرلماني للسياسة»)، إذ يقول وامبا أنّ هذا، هو الآخر، منتهي الصلاحية.
يبحث وامبا في هذا النص عمّا يسميه بنمطٍ انعتاقيٍّ للسياسة، ولا يحدده بنماذجَ أو مؤسساتٍ بعينها، بقدر ما يربطه بشروطٍ محددة يجب أن يحققها أي نمطٍ مأمولٍ لسياسةٍ انعتاقية.
ملاحظات حول الترجمة:
1. «نمط السياسة»
نبدأ بالمفهوم الوارد في عنوان النص، «نمط السياسة» (mode of politics)، ويعرّفه وامبا ديا وامبا بأنه «الطريقة التي تشتغل فيها السياسةُ كسيرورة، وكنظامٍ لاتخاذ القرار، وكممارسات وأيديولوجية تستبطنها في هذه السيرورة».
والمفهوم مأخوذ من نص الفيلسوف الفرنسي سيلفيان لازاروس والمعنون «هل يمكن التفكيرُ بالسياسة في باطنية؟» (?Peut-on penser la politique en intériorité) الذي يبحث فيه عن أنماط السياسة «الباطنية» و«الخارجية»، حيث يعرّفُ الثانية بأنها هيئةٌ للتنظيم السياسي ترى السياسة بعلاقتها الحصرية مع «موضوعٌ» (object) أو «شيء» أو «هدفٍ» محدد، وإن كان الموضوع الحاضر في نصّ لازاروس هو «الدولة»، معرّفًا «السياسة في باطنية» بأنها «سياسةٌ في ابتعادٍ عن الدولة» و«السياسة في خارجية» بأنها «سياسةٌ في فضاءِ الدولة»، فالموضوع والحصرُ قد ينتقل، كما يشير مترجم النص إلى الإنجليزية تايلور هاربر، إلى «المواطنة العالمية» على سبيل المثال. (والترجمة الإنجليزية متاحةٌ مجّانًا في هذا الرابط.)
ويدفع لازاروس بدلًا من ذلك إلى سياسةِ «غير دغمائية ومتمحورة حول الممارسة»، وأساسًا هو أنّ «الناس تفكر»، أي أن السياسة لا تنطلق بجرِّ الناس إلى التفكير بموجب أصناف ومفاهيم معيّنة، بل بما يفكّر به هؤلاء الناس، وسواءً كان هذا التفكير «في باطنية» أم «في خارجيّة» فهو ليس انقسامًا بين الوعي وغيابه، ففي كلا الحالتين التفكير حاضرٌ والسياسة حاضرةٌ، إنما بأنماط مختلفة.
2. «المثقّفية السياسية»
يمرّ هذا المفهوم الغريب مرورًا سريعًا، وآثرتُ الحفاظ على الغرابة أثناء تعريبه، حيث يدعو وامبا في توصيفه الموجز لشروط النمط الانعتاقي للسياسة، إلى لجان شعبية تعالج الاختلاف بين الناس كطريقةٍ «ستخدم كمُفَوَّضيّاتٍ مسؤولةٍ عن المُثَقَّفيّة السياسية لنمط السياسة هذا»، والمفردة الإنجليزية التي يستخدمها هي (political intellectuality).
هذا المفهوم المأخوذ من الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، يقف عالقًا ما بين مفردة «ذكاء» (intelligence) و«الطبقة المثقفة» (intelligentsia) في ترجماتها الإنجليزية، ولكنه يستهدف، حسب أسد حيدر، مساءلةَ العلاقة بين الاثنين، حيث يشير هذا المفهوم إلى «المسائل [العملية] المعنية بالتنظيم ودوره في تحويل أنماط التفكير، في مواجهةٍ مع الأيديولوجيات المتخاصمة، وبتمفصلٍ مع ممارساتِ التعلم» حسب باناجيوتيس سوتيريس، و«إلى مشاكل إنتاج المعرفة الداخلة في «تفصيل الاستراتيجيات»»، أو بِلُغةٍ أبسط، إلى كيفية عمل التنظيم السياسي الاجتماعي على تغيير طرق تفكير الناس أثناء مواجهتهمن تحدّيات هذا العمل في وجه الخصم ومخاطره، وبارتباطٍ مع تحوّل الممارسات التثقيفية والتعليمية للناس، إذ يستهدف غرامشي إنجاز تنظيمٍ حيثُ «شروط التمييز [بين القيادة ومن سواها] لا تعود ضروريةً».
بداية النصمقدمة
نحن نعيش في حقبة أزمة سياسية. إنّ الممارسة السياسية الانعتاقية (الثورية أو التقدمية) ذات الجذور المنغرسة في الجماهير القاعدية من الناس – العمّال وفقراء الفلّاحين – لم تعد متجسِّدةً اليوم في السائدِ من أنماطَ تاريخية للسياسية. فنظريّاتُ الانعتاق الإنساني الاجتماعي والممارسات التي تتضمنها غَدَتْ، فجأةً، غير قابلةٍ للتشغيل. وهذه الأزمة العالمية بلغت أوجها مع اختتام «أزمة الماركسية»،[1] وانهيار الدول الاشتراكية لأوروبا الشرقية، وهزيمة تمرُّد تيانانمن[2] في وجه العَمَلية الدينجية الحداثية لإلغاء الاشتراكية،[3] وهزيمة الجبهة الساندينية في نيكاراغوا، وانبعاث انتفاضاتٍ جماهيرية في أفريقيا – لأجل الديموقراطية، أو انتفاضات الخبز، إلخ – ضد التنموية الشعبية للدولة أو أبويتها التي يشرف عليها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
نحن في حقبة أزمة للأنماط التاريخية السائدة للسياسية التي نظَّمت العمليات السياسية منذ القرن التاسع عشر. ونمط السياسة[4] هو الطريقة المحددة التي تشتغل فيها السياسةُ كسيرورة، وكنظامٍ لاتخاذ القرار، وكممارسات وأيديولوجية تستبطنها في هذه السيرورة. لقد حُدِّدَ نمطان تاريخيّان سائدان للسياسة: النمط البرلماني للسياسة (الذي يشتمل على الديمقراطية الليبرالية) ونمط الستالينية أو الأممية الثالثة للسياسة. واليوم لا النمط البرلماني ولا النمط الستاليني المستند إلى الحزب الثوري الطليعي يدعمانِ سيرورةً الانعتاق الإنساني والاجتماعي. والحماسة الجماهيرية إزاء كلا النمطين في اضمحلالٍ متزايد.
بإيجاز، يُخضِعُ النمطُ البرلمانيُّ للسياسةِ الأحزابَ لِإجماع الدولة. وفي آخر المطاف تُختَزل السياسة في مسألة أرقام: حقُّ أكثريّة الأصوات هو أساس قانونيّتها ومشروعيّتها. والسياسة تُعرَّف وفق شكل المؤسسات لا أكثر (المسمّاة أيضًا بالحريّات المدنية) بصفتها وسائط الحرية. والأحزاب في هذا النمط ليست تنظيماتٍ سياسية (أي: مُشغِّلة للشروط الداخلية للوعي السياسي) بل تنظيماتُ دولة تتنافس على توزيع مناصب الدولة.[5] وهي باطنيةٌ في الدساتير وتشتغل على أساس منظومة الدستور والدولة ومن خلالها. وبذلك تُختزل السياسة في احتلال مناصب الدولة وتوجّه نحو ذلك – لا نحو تدميرها. والتعددية الحزبية، إذن، تُعرِّفُ نوعًا من أنواع الدولة. ولا توجد ضماناتٌ متأصِّلة فيها تُجِبر الدولة على الخضوع لِمحاسبة جماهير الناس إلّا من خلال الانتخابات التي تفصلها فتراتٌ طويلة.
نشأ النمط الستاليني للسياسة بعد نهاية النمط البلشفي للسياسة[6] (ونعرّف الأخير هذا كالسياسة في ظل شروط الوعي السياسي الثوري) الذي وُجِد في فترة 1902-1917. وانتهى هذا النمط الأخير مع التمرّد المسلّح لأكتوبر 1917 الذي أدى للاستحواذ على سلطة الدولة وتحويل الحزب إلى ذراعٍ لإدارة الدولة الاشتراكية. ولكننا لسنا نقصد بالنمط الستاليني الاتحاد السوفياتي تحت حكم ستالين (الستالينية)، بل نشير إلى سياسةٍ، مستقلّة عن الدولة، تخللت الأحزاب المرتبطة بالأممية الثالثة – وهي انحرافٌ شكليُّ المنهج (formalist) عن النمط البلشفي، حيث الحزب الثوري يُنظر له كشرطِ الوعي السياسي الثوري. والسياسةُ في هذا النمط إذن ترجع إلى الحزب، والحزب هو مآلُ السياسة الثورية والسياسة الثورية هي الحزب. وفي آخر المطاف، تُختَزل السياسة في تنظيم الحزب أو بنائه. وفي غياب الاشتراكية في بلدٍ ما، على الواحد أن يكون لديه على الأقل تنظيمٌ ثوريٌّ، الحزب: «إنْ كنت ترغب بثورة، فيجب أن يكون لديك حزبٌ ثوري».
هذا النمط – الذي يُخضِع السياسة لِفكرة الواحد: طبقةٌ واحدة، حزبٌ واحد، دولةٌ واحدة – يجعل الحزب، بصفته «كتيبةً من البروليتاريا»، الوعيَ السياسي للسياسة البروليتارية.
تُحصَر السياسة في الحزب والحزب، بصفته تنظيمًا، يُنظر له كفحوى الأيديولوجية عينها. ومع تقديم الحزب كمصدر الحقيقة السياسية، يستلزم النمط الستاليني مصداقيةَ الحزب. فمن المفهوم أنّه في دولةِ عمّالٍ انبعثت معادلةٌ وحدويةٌ: الدولة تساوي الحزب، ما جعل الانتماء للحزب متماثلًا مع الخضوع للدولة والإجماع، بل والإجماع المطلق. وأمّا فكرة دولةِ كامل الشعب فهي مرتبطةٌ بذاك الموقف. وأما تفكيرُ الناس، وكل أشكال الوعي التي لا تتماشى مع خطّ الحزب، فيجب كبتها. وهذا كان أساسَ تطهير الحزب عبر الحملات التطهيرية، لكن المساحة هنا لا تفسح لي المجال للإسهاب أكثر من هذا.
في سياق العالم ثُنائيِّ القطب،[7] وصراعات القوى العظمى على الهيمنة العالمية، والحرب الباردة، انكسر الرابطُ بين نَمَطيِّ السياسة هاذين وانعتاق الناس انكسارًا تدريجيًّا. فقد غلب على هاذين النمطين طابعُهما كقاعدتيّ الانحياز السياسي في معسكريهما المتعارضين، حتى تنظمت سياسة التحالفات فيما يدعى «العالم الحر» على أساس النمط البرلماني، وفي العالم الاشتراكي (بمن فيه الطامحون للاشتراكية) تنظَّمت سياسته حول النمط الستاليني للسياسة. والخصومةُ والأزمات المرتبطة بالعالم ثنائي القطب أدَّت في آخر المطاف إلى هجر السياسةِ الانعتاقية التقدّمية. فالحاجات والطموحات الأساسية للجماهير الواسعة من الناس لم تعد الأساس الموضوعي لأنماط السياسة، لِما انتهت إليه هذه الأخيرة إذ صارت صيغًا سياسية شكلية تُنقَل تارةً إلى الحلفاء في الأطراف وتارةً أخرى تُفرَض عليهم. ومن هذا المنظور يمكننا فهمُ تجارب الديمقراطية-من-الأعلى، والطرق غير الرأسمالية للتنمية أو الدول والحركات ذات التوجه الاشتراكي. ومع تفكيك دولة الرعاية الاجتماعية في البلدان الغربية، بلغت أزمةُ نمطها السياسي أوجها. وكشفت نشأة الاشتراكية البيروقراطية وبلوغها الأزمة ومن ثم الانهيار، أزمة النمط الستاليني للسياسة. وأصبح من الممكن للغرب أن يفرض الديمقراطية بالقوة العسكرية على بلدٍ ما (مثل: باناما). وأما الحماية العسكرية للأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية بواسطة الاتحاد السوفياتي فقد كانت مؤشِّرًا على هجران هذه الأنظمة للسياسة الانعتاقية. وأما الأحزاب الشيوعية (في الغرب، إلخ)، التي خامرت منذ حينِ تطلّعها لشكلٍ من أشكال الاشتراكية البيروقراطية، فقد كسرت ارتباطها بالجماهير الواسعة للعمّال تدريجيًّا.
أفريقيا أثناء الاستعمار وبعده
في أفريقيا، حتى أثناء النضالات لأجل الاستقلال الوطني، كان مرجعُ السياسة – لربما مع بعض الاستثناءات – هو مبدأ الدولة، أي: السياسة هي الدولة والدولة هي السياسة. ولم يكن المرجع موقفًا مُتخاصمًا مع نظام الدولة الاستعمارية – شكلٌ منظّمٌ للوعي – بل استبدالُ المستعمِريْن داخل الدولة الاستعمارية، أي: احتلال مناصب الدولة. وكان الوعي السياسي والوعي الدولتي متماهيان: مالت الدولة، إذن، لأن يستبطنها حتى من قاتلوها أو قاوموها. وللتاريخ الاستعماري صلةٌ بشيوع هذا التصور. فالدولة الاستعمارية كانت شكلًا من أشكال الدولة التي أسماها الشيخ أنتا ديوب[8] بـ «دولة بالغزو». فهي دولةٌ حيث رَفضتْ مجموعةٌ غازية الاختلاط بالجماعات المَغْزِّية وأقامت سيطرتها على أساس هذا الفصل المُطلَق. وحينما كان الفصلُ ذو جوهرٍ إثنيٍّ، أدّى ذلك في آخر المطاف إلى الإبادة الجماعية. وأغلبُ الدول الحديثة تندرج تحت هذا التصنيف: الدول في أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية، وأستراليا، ونيوزلندا وكذلك جنوب أفريقيا. وهنا الدولة لا تتوافق مع أمّةٍ: أقليّةٌ من الغُزاة الظافرين تَفرض قانونها على الأغلبية المَغزيّة المهزومة من خلال مؤسسة دولةٍ قسرية تُصُوِّرَت لهذا الغرض وبُنِيَت لأجله.
دون الخوض في التفاصيل، لم تنجح الدولة الاستعمارية، في أفريقيا، في الإبادة التامة للناس المَغزِيّة المُستعمَرة، جزئيًّا بسبب الظروف التاريخية وحقيقةِ أنّ هذه الشعوب احتيجت لتوليد الموارد اللازمة لبناء هذه الدولة نفسها. فكان على المستعمرات أن تكون معتمدة على نفسها – وهذا كان أساسَ تبريرها في المراكز الاستعمارية حيث حركة الطبقة العاملة كانت لا تزال قوية. والمرحلة الأولى للدولة الاستعمارية استندت إلى القوة القسرية وتكوَّنت عناصرها أساسيًّا من القوّات العسكرية، والمغامرين والسايكوباتيين،[9] ويشهد نموذجٌ عاديٌّ لذلك في دولة الكونغو الحرة التابعة للملك ليوبولد الثاني، تحت قانون المطاط الأحمر للقوة الوحشية. والمرحلة الثانية من مأسسة الدولة الاستعمارية استندت إلى الإدارة الممنهجة للعَمالة المحليّة كأساسٍ لتوليد إيرادات الدولة، وجرى ذلك بتنظيمِ مختلف أشكال العمل القسري – من العمل الإكراهي (عمل المساجين، والعمل الإجباري، والزراعة الإجبارية للمحاصيل) وحتى العمل غير الإكراهي (العمل بالعقود، والعمل الطوعي)، وكان نظام العمل للسكان الأصليين للبرتغال أكثر الأنظمة تفصيلًا.[10] وكانت أشكالٌ معينة من التواطؤ المحلي («الحكم غير المباشر») ضروريّةً لجعل هذه السيطرة قابلة للعمل ومستحملة. وببساطة، وكنتيجةٍ لِتبعات الحرب العالمية الثانية والتقسيمات الاجتماعية الناشئة، قدَّمت مرحلة إلغاء الاستعمار للدولة الاستعمارية مؤسساتٍ – انتُزِعَت جزئيًّا بِنضالات جماهير الشعب المستعمَرة – تُتيح بعض الحقوق الأساسية للناس المستعمَرة. ورغم أهميته البالغة، فقد كان هذا التحوّل تحوّلًا داخل الدولة الاستعمارية، لا يدمرها بكل ما فيها.
وسُمِح أخيرًا بالأحزاب أو المنصات السياسية التي نظَّمت في آخر المطاف حركةَ الاستقلال الوطني. ولكنها في البداية على الأقل كانت مستندة إلى تنظيماتٍ للدولة الاستعمارية تتنافس على احتلال مناصب الدولة الاستعمارية. وفي ظل هذا التجهيز للاستعمار الجديد، لم تُقمَع إلّا تلك التشكيلات السياسية التي تناولت المسألة المركزية للسياسة في المستعمرات – المسألة الاستعمارية – وبالتالي استزَفت هذا التجهيز. ورغم أن جذرية الأحزاب أو الحركات المرخصة تعمَّقَت أحيانًا، فالاستقلال الوطني اؤتُمِنَ – غالبًا – لدى من حبّذهم الاستعمار الجديد. وقد أتى هذا بالطبع بعد نضالاتٍ حاميةٍ استهدفت بها وفيها الحركةُ الجماهيرية تعميقَ جذريّة بعضِ الأحزاب، وإن مُنِيَت هذه النضالات بالهزيمة. فمن وجهة نظر سياسية، حتى من ناضلوا لأجل سياسةٍ تحرّرية (الإلغاء التام للشروط الاستعمارية للحياة) رأوا في احتلال الدولة الاستعمارية بدل تدمير الدولة الاستعمارية نفسها بصفته الشرط لتحقيق سياسةٍ كهذه. أيْ أنّ فحوى السياسة تمثَّلت بموجب رؤيتهم في شَغْلِ مكائن العدو، بدلًا من تدميرها وتحريك مكائن أخرى. وتبنّي الدولة الاستعمارية المحدود للنمط البرلماني للسياسة في مرحلة إلغاء الاستعمار، تحت راية التحديث والتنمية (المستندة إلى نقلٍ إشكاليٍّ للنماذج والتكنولوجيا، إلخ) حدّد الرؤية السياسية لحركة الاستقلال الوطني. وما زال علينا تحليلُ السياسة الأفريقية في صدد الأنماط التاريخية للسياسة. وأهمية ذلك تكمن في إتاحة تمييز الحداثة السياسية الخلّاقة الأفريقية – وغيرها من الأمور – عن اكتفاء الأفارقة بتبنّي نموذجٍ أو صيغةٍ سياسييْن: التحديث. في آخر المطاف، أُنجِزَ الاستقلال الوطني على أساس هجران السياسة الانعتاقية المتجذّرة في الجماهير الواسعة للشعب وحاجات هذه الجماهير وطموحاتها. والأُطر الدستورية التي أُخِذَت من المستعمِرين، لِتكون جزءًا من مكائن الحكومة، لم تُعرَض قط لِتوافِقَ الجماهير الواسعة للشعب عليها عبر الاستفتاء.
ومن المثير للاهتمام ملاحظةُ أن المستعمِرين الراحلين الذين كانت دولتهم الاستعمارية النقيض الكامل للنمط البرلماني للسياسة، كانوا الجهة التي دفعت نحو نوعٍ من أنواع هذا الشكل عبر أطرٍ دستورية فصَّلوها للبلدان المستقلة حديثًا. فلا يبدو أن المؤسسات القسرية والهويّات والذهنيات السياسية المترافقة معها، التي خلقها المستعمِرون، قد احتسبت. ومُهمّةُ التحضير (civilization mission) أضحت مُهِمَّة التنمية، وسيرورتها تم تصورها كَمهمة تحويلٍ – من الأعلى – للقُطْرِ المنحوت استعماريًّا إلى دولة-أمة. أكان الاستعماريون يعلمون أن ذلك لن ينجع؟ سواءً علموا بذلك أم لا، أصبح المستعمِرون السابقون والشعب المستعمَر سابقًا «شركاء في التنمية». وأما الدولة الاستعمارية السابقة، التي أمسك بزمامِها المحدِّثِون، فقد أصبحت الوكالة رقم واحد لِهذه التنمية.
وُجِدَ عشيّة الاستقلال نوعٌ من أنواع النمط البرلماني للسياسة. والدولة-الأمة الناتجة لم تبتعد كثيرًا عن الدولة الاستعمارية لمرحلة إلغاء الاستعمار. ,قادة البلدان المستقلة حديثًا، الذين نُظِرَ إلى احتلالهم مناصب الدولة الاستعمارية بصفته غايةَ السياسة الانعتاقية لتقرير المصير وتحقيقًا لشروطها، تبنّوا معالجَةَ الدولةِ الاستعمارية للقضايا السياسية: معالجةُ الاختلافات بين الشعب – الديمقراطية، أو المسألة الوطنية، أو القبلية، المصنع كموقعٍ للسياسة، إلخ. وسرعان ما أدّت سياساتها إلى نفس مجازر الحقبة الاستعمارية: الإضرابات العمالية تُقمَع بالرصاص، والقوة العسكرية كانت السبيل لمعالجة الانفصالاتِ والنَزعات الانفصالية وصرخاتِ المسألة الوطنية، وأما عدم التكافؤ الثقافي فتُصدّي له بالاندماج القسري، إلخ.
سيظهر، مثلًا، أن العنصر الداخلي المسؤول عمّا يسمّى «أزمة الكونغو» كان غياب نمطٍ تقدّميٍّ مستقلٍّ للسياسةِ (بسبب انهياره أو نهايته) يُعالج بوجهٍ صحيح تطور السيرورات كمسائل سياسية، بعد إعلان الاستقلال بقليل. فقد تكرر عند الأحزاب الموجودة الخلط بين السياسة والأيديولوجية؛ بل الواقع هو أنّه بسبب غياب السياسة، صارت الأيديولوجية هي السياسة، ومفادها أنّكَ إنْ حملت أيديولوجية ذات نبرةٍ ثورية فذلك كافٍ لجعل الدولة تخدم الشعب وتخضع لمحاسبتهم. وكان من المفترض لحَمَلَةِ «الأيديولوجية الثورية»، متى ما وصلوا إلى السلطة، أن يحرّكوا الدولة إلى اليسار ويجعلوها مهتمة بحاجاتِ الجماهير وطموحاتهم. وفي الغالب أيَّدت الأحزاب التعامل – ذو الجوهر الاستعماري – الذي اتخذته دولة ما بعد الاستعمار مع الإضرابات العمالية، والانفصالات، والتمرّدات العسكرية، والقَبَلية، إلخ، والواقع أن ذلك عمَّقَ الأزمة.
فحتى «الحركات الوطنية»، ذات الأيديولوجية الجذرية، نزعت إلى إرجاع وجهة نظرها للاستقلال الوطني إلى عناصر خارجية (احتلال مناصب الدولة الاستعمارية، المعونة الخارجية بهدف مقاومة الإمبريالية، تبنّي نماذج جاهزة الصنع؛ ما صعّب إدراك «صحة وقائع التاريخ الوطني» وتحديد المشاكل ومعالجتها بنحوٍ صائب كمسائل سياسية). ونزع ذلك إلى توطيد منطق الدولة الاستعمارية، أي: الوطنية القطرية. ففي رأيي المتواضع، بعض العناصر المهمة في البرنامج السياسي للومومبا – ضرورة وحدة البلاد وفق خطوط الدولة الاستعمارية ومنطقها وضرورة حزبٍ وطنيٍّ واحد (يُنظَر له كالأمة مُنظَّمةً كعائلة واحدةٍ) – طبّقها موبوتو. ولهذا فالمحاولات اللومومبية لإسقاط نظام موبوتو عبر نوعٍ آخر للسياسة نفسها تبدو غير منطقية وغير فعالة.
رغم النضال المحتدم ضد الإمبريالية – المتمركز حول النضالات ضد الاستعمار الاستيطاني البرتغالي وما انطوى عليه من فصلٍ عنصري – وتَذرُّعًا بالمشروع ما-بعد-الاستعماري التنموي لِبِناء الأمة، ذو الجذور المغروسة في الإرث الاستعماري (توليد الفائض لأجل التصدير، عبر إجاعة جماهير الناس)، هُجِرَت السياسة التقدّمية والانعتاقية تدريجيًّا. أضف على ذلك أثر الحرب الباردة التي – ابتداءً بأزمة الكونغو – جعلت من أفريقيا أرض معارك بين الشرق والغرب في صراعٍ للهيمنة العالمية. وبذريعة احتواء انتشار الشيوعية في أفريقيا، دعم الغرب عسكريًّا أشدّ الدكتاتوريّات سلطويّةً. وحتى النوع الاستعماري الجديد لأحزاب-الدولة (مرادفةٌ للنمط البرلماني) الذي تركه المستعمِرون نُظِرَ له – باستثناءاتٍ قليلة – بين الحين والآخر كعائقٍ أمام «التنمية السريعة» و«الوحدة الوطنية»، ولذلك تُرِكَ هو الآخر. فنظامُ موبوتو مثلًا، المُصاغ تحديدًا في عملية تصفية تمرّدٍ مسلّحٍ جماهيريٍّ لأجل «الاستقلال الثاني»،[11] ومدعومًا دعمًا قويًّا من الغرب بقيادة أمريكا، صار متزايد السلطويّة والقمعية. وفرنسا ظلَّت تتدخل عسكريًّا في الصراعات الداخلية، ما أدى إلى تدعيم أنظمةٍ استبدادية في بعض بلدان أفريقيا الفرنكوفونية. وفي آخر المطاف أصبح الحكم المطلق للدولة-الحزب الشكل المهيمن للحكم في أفريقيا.
وفيما يتعلق بنظريّات سلطة الدولة وتنظيم الاقتصاد وممارساتهما، ورغم حقيقةِ أن البلدان الأفريقية استعمرتها وألغت استعمارها القوى الغربية، يبدو أنّ الأنظمة السوفياتية (الاشتراكية البيروقراطية) كانت النماذج لهذه البلدان.[12] حزبٌ واحدٌ أو حزب-دولة واحد، إدارةٌ بيروقراطية وأبوية للاقتصاد، واستحواذ عصبةٍ من الناس على الدولة وسياساتها الخارجية والتحكم بها، إذ تتحدث هذه العُصبة باسم المصلحة العامة («الوحدة الوطنية»، «التنمية الوطنية»)، فاتساع الأجهزة القمعية (ما أدى إلى اغتيالاتٍ سياسية، وملاحقة للخصوم، إلخ)، والتعسفية القانونية، والرقابة على الإعلام والإنتاج الثقافي والفكري والروحي، إلخ، كلّها عناصر صارت شائعةً في كل الأنظمة الأفريقية ما-بعد الاستعمارية تقريبًا. وتزايدت دَوْلَنَة المجتمع: المجتمع مجبرٌ على خدمة الدولة التي تحكّم بها عصبةٌ سلطوية. وهذه الحال لا تنطبق فقط على الأنظمة التي سمّت نفسها يومًا بالماركسية-اللينينية، مثل إثيوبيا وبينين وأنغولا وموزمبيق أو الكونغو-برازافيل، أو ما تسمّى بالأنظمة الشعبية في بوركينا فاسو وغانا، بل وحتى تلك المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالقوى الرأسمالية الغربية: البيروقراطيّات السلطويّة في الكاميرون وكوت ديفوار وتوغو وغابون وزائير وكينيا، إلخ. فقد أفرط في مبالغة التمايز بين الأنظمة ذات التوجه الماركسي والأنظمة ذات التوجه الرأسمالي أو الأنظمة المدنية والعسكرية. فهذه الأنظمة المركزية البيروقراطية السلطوية الأفريقية أدت على نحوٍ متزايد إلى شعورٍ باستحالةِ السياسة وغيابها.
ومُنيت بالفشلِ الكثيرُ من المحاولات المتنوعة الهادفة إلى تطويرِ سياسةٍ معارضةٍ تستهدفُ تحويل الأنظمة السلطوية المتمركزة حول الدولة-الحزب. وفي بعض الحالات شُنَّت صراعاتٌ مُسلَّحة لإسقاط الدول التنموية دونما نجاح، بل وحتى حين تنجح، لا تبتعد الأنظمة المُستحدَثة كثيرًا عن تلك المُسقَطة. ومع تعمّق الأزمة الاقتصادية ازداد الوضع سوءًا بعض الشيء. وأنظمة الدولة-الحزب (أو الدولة-الحزب المسيطر)، الخاضعة لتحكم صندوق النقد الدولي/البنك الدولي، ازدادت فسادًا وإرهابًا تجاه شعبها.
فمن الطبيعي إذن أنّ تناولَ الأزمة الاقتصادية بحد ذاته لم يخاض كعمليةٍ سياسية، بل أحيلَ بدلًا من ذلك إلى منطق قَسْرِ الدولة، بامتثالٍ لقيود صندوق النقد/البنك الدولي، وخارج متناول المشاركة الشعبية، أي: خارج متناول سياسةٍ انعتاقية تقدّمية وبغيابها. وأبقي على «تجميد» الحقوق الاقتصادية للعمال وترك سياسات «الرفاهية الاجتماعية للدولة» في ما يسمّى «الانتعاش الاقتصادي». ومؤخرًا في أوغندا – التي تنتهج منظومة أحزاب-الدولة – عُلِّقَت الأنشطة الحزبية بدعوى معالجة الأزمة الاقتصادية.
وإلى جانب الأزمة الاقتصادية، تمرّ البلدان الأفريقية بأزماتٍ اجتماعية وأيديولوجية وسياسية. وغيابُ سياسةٍ ديمقراطية داخل الناس أنفسهم – كإحدى تبعات دولنَة المجتمع – أَعْجَزَ الناس عن ردع الدولة عن تناول الاختلاف – وفق القومية، والجندر، والعمل الفكري/اليدوي، ومستويات التعليم، إلخ – بنحوٍ إقصائيٍّ وغير متساوٍ. وفي وجه سوء معاملة اللاجئين والنساء والأقليّات القومية، مثلًا، أنيط بالناس دور المُشاهد الخامل. واللاجئون السياسيون الباحثون عن ملجأ أجبِروا على العودة إلى جزّاري دولتهم. والمجتمعات غَرقت في أعماق الأزمات الاجتماعية. وصار المجتمع منقسمًا إلى قسمين: قسمُ ذوي المصالح المضمونة – مهما صَغُرَت – وقسمُ مُنعدمي المصالح أو حتى الحقوق. وأي معالجةٍ من قِبل الدولة للاختلاف (المواطن/غير المواطن، الذكر/الأنثى، إلخ) جُعِلَت مقبولةً اجتماعيًّا وجوهريًّا كعنصرٍ طبيعي: حقُّ الأقوى. وحتى المحاسبة أعيد تعريفها وباتت مسألة تكنيكية، مسألةٌ مظاهرية، لا ديمقراطية. وفكرة أفريقيا الشعوب التي تصاعدت في أواخر الخمسينيات – حتى «مؤتمر كل الشعوب الأفريقية» – أصبحت مستحيلةً وغائبةً في أشكال وعي الشعوب. ولا تجد الدولة صعوبةً في تعيين مجموعة واحدة (اللاجئين أو طلّاب الجامعات مثلًا) كعدوٍّ للمجتمع.
وإحدى عواقب إدارة الدولة للطبقة العاملة، من خلال «نقابة» الدولة الواحدة، وإرهاب الدولة ضد الإضرابات العمالية «غير المصرّح لها»، هي غيابُ مقاومة عمّال المصانع بصفتها المركز القائد للمقاومة الشعبية في العمليات السياسية التي تتضمن كامل السكّان أو تتعلق بهم في انحرافهم عن الدولة أو استقلالهم عنها. وقد فاقم ذلك تقسيم الدولة للشعب، ما عزز أشكال الدولة للوساطة بين السكان، وزاد بسبب ذلك من تعقيدِ عملياتِ توحيد الشعب. والنضال ضد السيطرة الإمبريالية، خصوصًا بِهيئة توأم الصندوق والبنك، صار من الصعب استدامته. ودولنة الشباب عبر أذرع الدولة-الحزب عطّل، في العديد من البلدان الأفريقية، نضاليةَ الطلّاب ونقدها الاجتماعي والأخلاقي للمجتمع. وتجاور ذلك مع الإغلاق المتكرر للجامعات أو المدارس. وكل هذه العناصر للأزمة الاجتماعية هي عوامل مهمة للسياسة لكنّها ليست مسائل السياسة بحدّ ذاتها. بل هي بحد ذاتها لا تولّد طاقاتٍ سياسية حتى.
في مواجهة أوضاع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، ونظرًا لمعاداتهم الأفكار الجديدة والمختلفة، عجزت القوّى الحاكمة عن طرح منظومة متماسكة للقِيَم، لا ما يسمّى «الأصالة»، ولا حتى الاشتراكية الأفريقية أو غيرها من الاشتراكيّات. فالقاعدة كانت الاغترابَ عن الجماهير والاتكال المقنَّع (أو المكشوف) على الإمبريالية، ونجد أمثلةً على الإفلاس الأيديولوجي والثقافي للطبقات الحاكمة في تعاقُد زائير مع أوتراغ الألمانية، ومعاهدة نكوماتي بالنسبة لموزمبيق، والقبول باستقبال المخلفات النووية في القارة عمومًا، والتهريب الرسمي للموارد الوطنية من قِبَل مسؤولي الدول. وتصاعدت التشاؤمية والأنانية مع اضمحلال مصداقية «الأيديولوجيات الرسمية»، وصعدت معها الأصولية الدينية أو التلفيقية. وأما التنمويّة، بصفتها أيديولوجية ناشئة من مذاهب التنمية التي طرحتها الإمبريالية، فقد فشلت في تأدية دور الحل للأزمة الأيديولوجية، نظرًا لأن الدولة عجزت حتى عن توفير أساسيات البقاء. ولا يمكن لنفسِ العملية التي تؤدي إلى تخلف التنمية أنْ تولّد في الوقت نفسه تنميةً عامةً أو حتى تعززها.
في أفريقيا، الأزمة السياسية، التي اتضحت أكثر مع انهيار الدول الاشتراكية لأوروبا الشرقية، هي الأخرى خاصةٌ أيضًا. وفُضِحَت مصداقية الحزب الذي نشأت عليه منظومة الدولة-الحزب السلطوية وصارت محل الشك. وهنا أيضًا عملت منظومة الدولة-الحزب على أساس ما أسماه الشرق ألمانيون أبوية الدولة[13] أو ما يسميه الجزائريون شعبوية الدولة.[14] وممارساتُ أمن الدولة (الاختطاف، التحرش، انتهاك الخصوصية، إلخ) تناقضت مع تلك الشعبوية. وبعض قرارات الدولة-الحزب، مثل تبنّي مُقترحات وبرامج الصندوق والبنك، أظهرت للعلن حقيقةَ أن الأيديولوجية السياسية التي تحكم الدولة-الحزب لها سمةٌ اعتباطية، أو بالأحرى: إنّها منظومة أكاذيب. وأزمة مصداقيةِ منظومة الدولة-الحزب فاقمها القمعُ الصريح الذي شنَّته الدولة على الحركات الجماهيرية (للعمّال المُضرِبين، والطلّاب، والمحاضِرين، إلخ) ذات المطالب المشروعة اجتماعيًّا (أن تضمن الدولة تسديدًا منتظمًا لأجور المدرّسين، وضرورة توفير الأجور المعاشية للمنتجِيْن لِكي يُنتِجوا أو يعيشوا لا أكثر، والحرية الأكاديمية، إلخ)، وعَملُ ما يسمى التعبئة الجماهيرية للحزب كعمليةِ إخضاع الناس لتحكّم الدولة وإرهابها (تخويف الناس، إجبار الناس على خدمة الدولة بدل أن تكون الدولة في خدمة الناس)، وَفَرْضُ العديد من أنواع الضرائب دونما فائدة ترجع للناس، وما يصاحبها من دَيْن أجنبي آخذ في التصاعد. والناس يرغبون بجهودٍ لتحسين الاقتصاد ويدعمونها، لكن من الواضح لهم أنّ كامل عملية تحسين الاقتصاد لا تستهدف إلّا إغناءَ قلّةٍ على ظهر الكِثرة – في حين تُلزم الكثرة بالبقاء صامتةً ومنصاعةً. وأما الأيديولوجية السياسية التي تحكم الحزب فتكشف تدريجيًّا عنّ واقعِ كونها انتهازية خالصة، فأعلى الأجور تخصص لِكبار الكوادر الأشد كسلًا والأقل عملًا! وكل حديثٍ عن إجراءات التقشف في وجه كل هذا لا يقنع أحدًا، بل يظهرُ الانتهازية بجلاء.
وترى الحزب يتقلّب بشأن القضايا التي تلتزم تضامن الشعب مع الشعوب الأخرى في العالم (الصين، رومانيا، جنوب أفريقيا، ليتوانيا، إلخ). والدولة-الحزب نفسها تخلق أعداء وهميين كذريعةٍ لتعزيز نفسها وتبرير إرهاب الدولة. وأما الحزبُ فقد نُظِرَ إليه كموقعِ السياسة ومصدر الحقيقة السياسية، والشعبُ في المقابل نُظِرَ إليهم بصفتهم غير ناضجين سياسيًّا في الممارسة. وليس من الواضح كيف من المفترض لهم أن ينضجوا. أليست هذه الصفة، في أساسها، جزءًا من الإرث الاستعماري أيضًا؟ وبسبب هذه النظرة للناس بأنهم عاجزون عن التفكير الراشد والمسؤول، لم يعد للحزب حاجةٌ في السعي لإدراك ما يفكر به الناس حقًّا، وخصوصًا حول ما يجب أن يكون عليه المجتمع. فعلى الناس، بالطبع، أن تتطابق أفكارهم مع ما يقوله الحزب! ولرفضِ الحزبِ حقَّ الناس في التفكير، فعلاقتهُ بالناس أشبه بعلاقةِ أمن الدولة بهم. وأما استقلالية سيرورات علاقةِ الناس بأنفسهم (الديمقراطية) فتتصورها منظومة الدولة-الحزب خطرًا أمنيًّا. ففي زائير حتى الكاردينال كان متوقّعًا منه أن يعتقد، لاهوتيًّا، بما تعتقد به الدولة-الحزب (حزب الحركة الشعبية للثورة) وما تقوله (أي: الموبوتويّة). وحينما اعترفت منظومة الدولة-الحزب عَلنيًّا بأنها فاسدة، كانت عملية إصلاح الوضع، التي سمّيت بـ «صراع» أو «حرب على الفساد»، عمليةٌ نظّمتها المنظومة نفسها، واستندت إلى نفس العمليّات الإفسادية، بعيدًا عن سياسةٍ تعتمد على جماهير الناس!
في ظل هذه الظروف التي وصفتُها بإيجاز، كان للأحداث في أوروبا الشرقية أن دفعت بنضالات الناس المستمرة ضد الحكم المطلق للدولة-الحزب وسلطويّتها، ما جعلهم يعتنقون رياح الديمقراطية التي تهب في أرجاء العالم. وبرزت الحركات لأجل الديمقراطية المطالِبة باستقالة العُصَب المتحكمة بمنظومة الدولة-الحزب (باسم المصلحة العامة أو الاستعلاء الأبوي) في كل أرجاء القارة. وبرز في هذا الصدد مطلبُ التعددية الحزبية، فقد عُقدت الآمال على أن التعددية الحزبية ستتيح إلغاء الحكم المطلق للدولة-الحزب. ورغم استمرار المحاولات لتنظيم الإصلاحات الداخلية للمنظومات الفاسدة (غابون، زائير، بينين، مدغشقر، كوت ديفوار، إلخ) لم تنهار حتى الآن أيةُ منظومةِ دولة-حزب. وقد نوديَ بتنظيم مؤتمراتٍ وطنية ديمقراطية، تجمع كافة التيارات السياسية الموجودة، لِتناقش بحرية مستقبل البلدان. ولكن لم يجري تقييمٌ شاملٌ للإخفاقات السابقة لتجارب النمط البرلماني للسياسة. فكيف انبثقت منظومة الدولة-الحزب ولماذا؟ هل للتعددية الحزبية أن تجلب سياسةً انعتاقيةً لأفريقيا؟ وَلِم فشِلت التعددية الحزبية في إنجاز ذلك في الماضي؟ في أفريقيا أيضًا لن تأتي السياسة الانعتاقية أو التقدمية إلّا في ظل شروطٍ معينة. والتحدي هو تعريف هذه الشروط وتحديد سيرورات وعمليات تحقيقها، حتى يتضح للعين ما إذا كانت التعددية الحزبية أحد تلك الشروط أم لا، أو الشرط الوحيد.
انهيار «الاشتراكية الحقيقية» – ماذا بعد؟
كانت السياسة الاشتراكية منهل الإلهام الرئيس في النضالات الأفريقية لأجل الانعتاق الاجتماعي والشعبي. ولكن يبدو أنّ هذا المنهل جففته أزمة «الاشتراكية البيروقراطية» في الاتحاد السوفياتي وجمهورية الصين الشعبية وانهيار الديمقراطيات الشعبية في أوروبا الشرقية. وحلول تلك الأزمة قد تفتح مناهل جديدة للإلهام في البحث عن حلٍّ في أفريقيا. وذلك يستلزم فحصًا موجزًا لأزمة «الاشتراكية البيروقراطية».
الاشتراكية البيروقراطية، وهي نوعٌ من أنواع الاشتراكية-من-الأعلى، انبثقت مهيمنةً من الدول ما-بعد الثورية (الاتحاد السوفياتي، الصين، إلخ) وبلدان أوروبا الشرقية بعد 1945 على أساس ترك السياسة التقدمية والانعتاقية[15] التي تكرّس مصالح الجماهير الواسعة للناس العاملة – العمّال وفقراء الفلاحين – وتجسَّدت في مجموعةٍ صاعدة هي «الإنتلجنسيا البيروقراطية» (وصفها ماو تسي دونغ بـ «برجوازية من النوع الجديد») وأحالت إلى منظومة «دول اشتراكية» صارت فاسدة وإرهابية تجاه ناسها. واستندت هذه الدول إلى سِمَتين فاعلتين أساسيتين: وجود حزب-دولة اندمج فيها الحزب بالدولة، ودولنةُ وسائل الإنتاج، وخصوصًا المصانع.
ولنا أن نميّز هنا بين نوعين من الاشتراكية البيروقراطية (وإلى جانب الديمقراطية الاجتماعية، لنا أن نميّز ثلاثة أنواع من الاشتراكية-من-الأعلى).[16] فهي هيمنت في بلدان مثل الاتحاد السوفياتي والصين وفيتنام بعد عمليةٍ ثوريةٍ داخليةٍ حقيقية، ولكن في أوروبا الشرقية – باستثناء ألبانيا ويوغسلافيا – فُرِضَت الاشتراكية أساسًا مع نهاية الحرب العالمية الثانية وتحت إشراف الاحتلال العسكري السوفياتي، وإن وُجدت بالطبع قوىً داخلية تدعمها. وبمعنىً حقيقي، هذه المُسماة الديمقراطيات الشعبية، التي أجبر اقتصادها على التبعية للاتحاد السوفياتي،[17] كانت نوعًا مخصصًا من «المستعمرات الجديدة» في سياق عالمٍ ثنائيِّ القطب.
وفق لينين، في «الثورة والدولة»، يمكن تعريف الاشتراكية بصفتها جَدليّةُ تَعَارُضٍ بين دكتاتوريةِ البروليتاريا المُمَارَسةِ من خلال منظومة حزب-دولة، وحركاتٍ جماهيرية مستقلة. وتطوُّر هذه المنظومة اعتمدَ على كيفية معالجة هذا التناقض.[18] واستمرار كبتِ هذه الحركات الجماهيرية أدى إلى تطوّر الاشتراكية البيروقراطية. وفي بلدان أوروبا الشرقية على وجه التحديد، كان للقيد «الاستعماري الجديد» للسيطرة السوفياتية وَقْعٌ على طريقةِ قمع هذه الحركات. ولهذا السبب مثلًا كان لنأي النظام السوفياتي عن التدخل، بموجب برنامَج «بيريسترويكا» وسياسة «غلاسنوست»، وقعٌ حفّز انهيار منظومة الدولة-الحزب في الاتحاد السوفياتي.
وصعود الاشتراكية البيروقراطية المركزية إلى السيادة، رغم ما واجهته من حركاتٍ جماهيرية ثورية وثقافية وإصلاحية، أبرزَ اكتمالَ «أزمة الماركسية». تآكلت الإحالات البسيطة إلى الماركسية بصفتها سياسةً ثوريةً ظافرة. ولم تغدو الدول الاشتراكية فاسدةً وإرهابية تجاه ناسِها العامِلة فحسب، بل حتى الطبقة العاملة – إذ ضللتها الأحزاب الشيوعية بتحريفيتها الآخذة في التزايد – باتت عاجزةً عن الخروج بمشروعٍ ثوري وطاقاتٍ سياسية ثورية. وأما حركات التحرر الوطني الجذري فقد أثمرت أنظمةً صارت عاجزةً عن إنجاز أي انعتاق اجتماعي، بعد الاستقلال الوطني، بل وصارت تدريجيًّا سلطوية وفاسدة وإرهابية أيضًا.
والصراعات ضد الميول نحو الاشتراكية البيروقراطية (التي يشاع تسميتها بـ «التحريفية الجديدة») في الحركات الثورية، عالميًّا، قديمة. ففي النضالات المتمحورة حول سيطرة العمّال التي بلغت أوجها في قمع انتفاضة كرونشتاد،[19] والحركات الجماهيرية الثقافية الثورية* (الثورة البروليتارية الكبرى في الصين، ومايو-يونيو 1968 في فرنسا، وحركة تحرر السود في الولايات المتحدة الأمريكية، وحركة الوعي الأسود في جنوب أفريقي)، وحتى الانتفاضات الجماهيرية لعام 1989 في أوروبا الشرقية، وتمرّد تيانانمن، ما استُهدف كان الميول الاشتراكية البيروقراطية المركزية المتشابهة، أو الاستبداد، أو الامتيازات والفساد في الدول الاشتراكية، أو التحريفية، أو «الفاشية الاجتماعية»، أو العنصرية داخل الأحزاب الشيوعية والنقابات الحرفية على سبيل المثال.[20] واستقالة بعض المثقفين الأفارقة (جورج بادمور، إيمي سيزار، إلخ) من الأحزاب الشيوعية، أو هجرة ماركسيي جنوبي السودان من الحزب الشيوعي السوداني، إلخ، كلها تشير إلى أهداف متشابهة. ودون الخوض في التفاصيل، ما استهدفته هذه الصراعات هو تصوُّرٌ للسياسةِ مفتوحٌ وديموقراطيٌ وتعدُّديٌّ في سيروراته وفي اتّكاله على الجماهير الواسعة من الناس.[21] والفشل في إنجاز هذا المبتغى أدّى إلى تدعيم الاشتراكية البيروقراطية، وأدّى فشلُ الدول الاشتراكية تحديدًا في القمع الكامل لنضالات جماهير العمّال والفلّاحين والمثقّفين ضدَّها، إلى أزمتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية، وانهيارها في أوروبا الشرقية.[22]
ما الحلول المطروحة لتناول هذه الأزمة؟ في الاتحاد السوفياتي والصين، تكررت محاولات إصلاح أزمة الاشتراكية البيروقراطية هذه، من داخل نظام الحزب-الدولة. ووُضعت سياساتٌ لـ «الصراع ضد الفساد»، صُنعت من داخل منظومةٍ فاسدةٍ وطبّقتها المنظومةُ الفاسدةُ نفسها، آلياتٌ تستهدف تسهيل عمل ضوابط الدولة، وإحداث انتخاباتٍ حرّة جزئيًّا، وإحداث قطاعاتٍ لاقتصاد السوق. وهذه الإصلاحات تسببت باضطراباتٍ معتبرة الحجم داخل تشكيلاتها الاجتماعية والقومية. وتصاعد الحس القومي خصوصًا في الاتحاد السوفياتي، بسبب الطريقة المركزية الماضية في معالجة المسألة القومية. وعلى نحوٍ رئيس، الإصلاحات لم تحلّ، حتى الآن، الأزمة العامة.[23] وهزيمةُ تمرُّد تيانانمن، رغم الضغوط الدولية، دعَّم مؤقتًا النظام الفاسد جدًّا في الصين دون حلِّ أزمته العامة. وتعزَّزَت الميول المركزية. وفي أوروبا الشرقية انهارت منظومة الحزب-الدولة ونَزع الناس إلى الدعوة لمنظومة الأحزاب-الدولة (التعددية الحزبية) أو إلى تنظيماتٍ سياسية ليست حزبية (مثل المنتديات) – أو إلى كليهما – إذ يُنظَر إلى هذه الأخيرة بصفتها تشغّل سياسةً مفتوحة وديمقراطية وتعددية وتستند إلى الناس.
في سياق العالم الثنائي القطب، تعطي أزمة طرفٍ وانهياره انطباعَ انتصار وتفوّق الآخر. فالموت السياسي للاشتراكية البيروقراطية دفعَ بالسياسة البرلمانويّة إلى موقع هيمنة. والمحتفلون بالرأسمالية في الغرب، خصوصًا، انتهزوا الفرصة لتكثيف الدعاية لاقتصاد السوق الحر وديمقراطية التعددية الحزبية. وأما الأنظمة والأحزاب التي تصف نفسها بالماركسية-اللينينية فسرعان ما طهرت نفسها من أي مرجعية ماركسية – وليس بالضرورة استجابةً إلى أي حركةٍ جماهيرية محلية بحد ذاتها، بل تماشيًا مع التيار العالمي.
برزت ثلاثُ أطروحاتٍ بِغاية تقييد أو كسر احتكار الحزب-الدولة للحقيقة السياسية، أبوية الدولة أو شعبويتها («المصانع يملكها العمّال، هذه الإضرابات غير مبررة»): الأولى هي أطروحة الإصلاحات الداخلية، على منوال غورباتشوف والصين. وهي جوهريًّا خطٌّ إصلاحيٌّ وَسطي يزعم أنّه يحوّل منظومة الحزب-الدولة القائمة (من «اشتراكية بيروقراطية» إلى «اشتراكية دستورية أو ليبرالية»)[24] في حين تتركّز السلطة في آنٍ حول الرئاسة، ويُرفَض قانون رأس المال الكبير، مع استبعاد أي تلميحٍ حتى بجعل المصانع الكبرى مواقعَ للعمليات السياسية. وبينما تفتح بعض القطاعات إلى قوانين السوق، فالإضرابات مُحرَّمةٌ في ما يطلق عليه مسمى المصانع الاستراتيجية للدولة. وهذا الخط السياسي غير مستقرٍّ بتاتًا. ففي فشله في غرس جذوره في توجّهاتٍ سياسيةٍ تقدميةٍ جديدةٍ تكرّس مصالح العمّال، أطلق العنان لاضطرابات المسألة القومية – دون أن يقدر على التحكم بها – في الاتحاد السوفياتي السابق نفسه (أذربيجان، أرمينيا، ليتوانيا، إلخ) وخارجه، ما أدى إلى بعث القومية الألمانية الكلاسيكية في أوروبا الوسطى، والتوترات العنصرية في بلغاريا، وتوترات الجنسية في رومانيا، وتعبيراتٌ متنامية عن معاداة السامية، إلخ. ومن البديهي أن العقوبات الاقتصادية المدعى أنها تستهدف حل بعض تلك الاضطرابات لا تعدّ صنفًا من أصناف السياسة التحرّرية. وإلغاءُ المركزية من الأعلى قد لا يحلّ المسألة القومية ديمقراطيًّا.
ولكن الصين لم تصل إلى ما وصل إليه الاتحاد السوفياتي السابق. يبدو أنّ تعاملها مع تمرّد تيانانمن قتل بلا أدنى شك كل ما تبقّى من السمة «المستندة إلى الشعب» لمنظومة الحزب-الدولة: يبدو أن الجيش الشعبي قد حُوِّلَ إلى قوّة قمعيةٍ لا أكثر. ولكن الاضطرابات لم تنتهي بعد. ومع ذلك، فحقيقةُ أنّ جزءًا من الجيش رفضَ إطلاق النار على الطلّاب أمرٌ ملحوظ.[25]
الأطروحة الثانية مفادها توطيد المجتمع المدني سياسيًّا، وفي آنٍ، دَفعُ كل التنظيمات السياسية والأحزاب السياسية (إذ هجرَ الناسُ الستالينية منها) إلى المشاركة في التنافس على مناصب الدولة. وأدّى هذا بدرجاتٍ متفاوتة إلى منظومة الأحزاب-الدولة (التعددية الحزبية) إلى جانب مجتمعٍ مدنيٍّ موطَّدٍ (يمارس حقًّا في الاستدعاء)، مجتمعٌ مدنيٌّ مُلغى الدولانية يحاول تقييد الدولة (يحاول ضمانَ أن يُفصل أشهر الناس فسادًا من مناصب الدولة). وهذا الخطُّ هو الآخر غير مستقرّ لأنه لن يكون فعّالًا إلا إن كان الحق في المحاسبة عمليّةً دائمة، أي: إن كان للمجتمع المدنيّ حقٌّ دائمٌ في الاستدعاء في أي لحظة. وهذا قد يُعجِز الحكومة عن إدارةِ شؤون البلاد وقد تغدو لـ «قوى السوق» الغَلَبة.
الأطروحة الثالثة، التي مثّلتها بولندا لوهلة، هيَ التوطيد سياسيًّا عبر منظَّماتٍ سياسية مستقلة عوضًا عن أحزاب طليعية، تنجذب حول العمّال والمصانع. من المفترض على المجتمع أن يُطوِّر – تحت قيادةٍ عمّالية (وعبر أشكالٍ للوعي) – تمييزًا واضحًا بين المجتمع والدولة. تنأى التنظيمات السياسية هنا عن التنافس على مناصب الدولة أو الاستحواذ على سلطة الدولة. وبدلًا من أن يخدم المجتمع الدولة، على المجتمع المُمَكَّن أن يجعل الدولة تخدمه. وهنا لا يُنظر للتعددية الحزبية كعنصرٍ مفتاح، حتى وإن كانت حاضرةً. فالسياسة تُعرَّفُ عبر تعدّدية مواقع السياسة (المصنع كموقعٍ للسياسة، الدين أو الثقافة كقضايا سياسية، والأحياء، والمدارس، والفلّاحون، إلخ) متَّكِلةً على القيادة المجتمعية للجماهير العامِلة، المنظَّمَة باستقلالٍ عبر المصانع والأحياء. إن معالجة القضايا السياسية عبر تلك المواقع – وبقيادة المناضلين – كان من المفترض له أن يوطد وحدة المجتمع في إجباره الدولة على أن تُخضِع نفسها لمحاسبة مجموع الناس. وهذا التصوّر بعيدٌ جدًا عن الأطروحة اللينينية القائلة بالتعددية الوظيفية لحزب-الدولة، ولقيادةِ الدولة، ولقيادة حركاتٍ جماهيرية عمّالية مستقلة ضد الدولة أيضًا. ويبدو أن التطور الأخير لِبولندا يبين أن هذه الأطروحة هي الأخرى غير مستقرة؛ يبدو أن بولندا انتكست إلى ديمقراطية التعددية الحزبية واقتصاد السوق.
لوهلة، ضد الحكم المطلق للحزب-الدولة على المجتمع والاقتصاد، طرحت الحركات الجماهيرية – الشرق أوروبية والسوفياتية والصينية – ديموقراطيةً دونَ أحزاب طليعية (انفصالُ الأحزاب عن الدولة)، واقتصاد السوق بأمل اللحاق بمستوى التنمية الغربي (خصوصًا مستوى استهلاكه). وفي أوروبا الشرقية خصوصًا، انبثقت مسألة العلاقة بين السياسة والاقتصاد كمسألة العلاقة بين الديمقراطية والتنمية. ولكن إنْ حكمنا استنادًا إلى الشعور العارم والمتنامي بخيبة الأمل، فاقتصاد السوق منعدم الضوابط، والديمقراطية الليبرالية، لم يحلّا القضية.
يُلاحِظ المحتفلون بانتصار الديمقراطية – في الغرب – أن بلدانهم ما زالت تمرّ بأزمة، وأنّ ما يدعى بالقضية العادلة، فَرْضُ الديمقراطية على البلدان الأخرى، هي الأخرى لم تأتي بحلولٍ للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية في تلك البلدان، وحربُ الخليج أوضحت الطابع الإمبريالي للديمقراطية الغربية. وسياسةُ الديمقراطية واقتصاد السوق التي استلزمها «النظام الدولي الجديد» الوليد قد لا تكرّس المصالح الأساسية للجماهير الواسعة للناس العامِلة في العالم. نحن نتّجه نحو أزمةٍ سياسيةٍ عالميةٍ مُطوَّلَة. لا الدولة، ولا الحزب، ولا السوق، لا أحدَ منها يبدو مُشَغِّلًا لسياسةٍ للانعتاق الاجتماعي؛ هذا هو التحدّي.
نمطٌ انعتاقيٌّ للسياسة
ليست السياسة التقدّمية موجودةً دائمًا، وحين توجد، تُوجد تحت شروطٍ تحقيقها يولّدُ نمطًا ملموسًا للسياسة. ما الشروط، في أفريقيا، لوجودِ سياسةٍ انعتاقية؟ تحديدُ هذه الشروط ضروريٌّ لتحديدِ نمطٍ للسياسة مُصاحِب. وبدلًا من الاكتفاء بمقارنة محاسن ومساوئ التعددية الحزبية مع محاسن ومساوئ نظام الحكم المطلق للدولة-الحزب الواحد، فالمنهجيةُ الأفضل هي تحديد تلك الشروط.
في أفريقيا، علينا الابتعاد عن «القومية القُطرية»[26] اللاوطنية للمُحدِّثين الكومبرادوريين. فعمليةُ «بناء الأمة من الأعلى» جذورها تعود إلى إرثٍ استعماري، وتُصِرُّ على الإجماع السياسي («الوحدة الوطنية»)، وهذه العملية حجبت إبداعية الناس والحماس الجماهيري وعقَّدت معالجة الاختلاف بين الناس مِن قِبل الناس أنفسهم/ن. وعلينا الابتعاد عن التنمويّة الراضية بالاستناد إلى نقل النماذج الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية التي استخلصت عبر عملية صناعة قرار يتحكم بها الخارج. وعلينا تفكيك الإرث الاستعماري وجمود التقاليد (تقاليدُ اختلقها المستعمرون أو تخيلوها وزعموا أنها أفريقية، ومن ثم تبنّاها الأفارقة)، وتُستخدم هذه «التقاليد» لتبرير الدولة ما-بعد-الاستعمارية وزخرفتها وجعلها مستساغة، دولةٌ علينا إلغاءُ إمبرياليتها. ولذلك علينا الابتعاد عن عمليات «إلغاء أصلية» (de-indigenizations) «المجتمع التقليدي»، و«تأصيل» (indeginization) الدولة الاستعمارية. فما زال «إلغاء تأميم»[27] اقتصاداتنا متواصلًا، أي: يخصخصها رأس المال الدولي، ما يبقيها بعيدة عن التحكم الممكن للشعب الأفريقي من خلال «دولتهم الديمقراطية» التي لم تبنى بعد. وعلينا أن نحوز على التحكم على إدماجنا في الاقتصاد العالمي. وعلينا دمقرطة سيرورة المعرفة التي يسيطر عليها الخارج تمامًا الآن. فبدون نمطٍ تاريخيٍّ جديدٍ للسياسة، رؤيةٌ جديدةٌ للسياسة، تلغي تهميش الجماهير الواسعة للناس (النساء، والشباب، والعمّال، والفلّاحين الفقراء، ومحرومي الهوية، والسواد الأعظم)، وتلغي تجميد إبداعهم وتتيح لهم التحرُّك بأنفسهم إلى صدارة صناعة التاريخ في بلداننا، بدون سياسةٍ كهذه لا يمكننا أن ننجح.
السياسة (القدرة السياسية، الوعي السياسي)، العلاقة التوجيهية (prescriptive) النشطة بالواقع، يشترط وجودها وجودَ أناسٍ يؤمنون بأن السياسية يجب أن تُوجد. لقد أناط ماركس وإنجلز للبروليتاريا القدرة الثورية الحديثة على تحقيق الشيوعية، وهذا الأمر لم يتحقق. ولربما يملك البروليتاريون هذه القدرة شريطةَ أن يلبّوا مستلزمات تلك السياسة وشروطها. وعلى البروليتاريا أخذ موقفٍ تجاه السياسة، أي: أخذ موقفٍ تجاه المصنع، تجاه مسألة الدولة والسلطة، تجاه مسألة الحرب والتحرر الوطني. أي أنّ عليهم امتلاك وعيٍ سياسي، فغريزةٌ طبقيةٌ عفويةٌ (وعيٌ نقابي)، وحدها، لن تؤدّي الغرض. وأما فانون فأناط تلك القدرة بالفلّاحين الثائرين، وكابرال أناطها بالمثقّفين الذين ارتكبوا الانتحار الطبقي. وفي أفريقيا، كان الميلُ هو إناطته بالدولة (بما فيها الحزب وحركات التحرر بعملها حقًّا كبُنية دولة) وحدها. ولسوء الحظ، لا يمكن للدولة أن تحوِّل نفسها أو تُصلِح نفسها: إنّها تقتل هذه العلاقة التوجيهية بالواقع عبر فرض الإجماع التوافقي. واستبطانُ الدولة، من قِبل الناس، وتوجّه الدولة لتناول الاختلافات بين الناس – على سبيل المثال – يفتعل رقابةً ذاتيةً لدى الناس ويقيّد الوعي السياسي.
للسياسة مناضلوها ومواقعها.[28] المواقع تتألف بتطور معالجة قضايا السياسة، فالمصنع موقعٌ للسياسة، والتجمُّع في الديمقراطية اليونانية القديمة، والمؤتمر في الثورة الفرنسية، والمجالس الحوارية (بالافير) [29] (حيث المساءلة الذاتية والنقد الذاتي المشتركين والمفتوحين الجماعيين يحصلان كطريقةٍ لمعالجة الاختلافات بين الناس)، الامبونغي[30] (التجمّع السلالي)، ولربما المؤتمر الوطني (حينما يكون مستقلًا عن الدولة) في أفريقيا – كلّها مواقعُ للسياسة. بدون هذه المواقع، تتوقف السياسة. وكلٌّ من منظومتي أحزاب-الدولة والحزب-الدولة رفضا رؤية المصنع إلّا كمكانٍ لصناعة السلع لا غير. وكلا المنظومتينْ تظنّ أن الناس، بمجموعهم، ليسوا إلّا ضمانةً للدولة.
السياسة ليست في الحزب، فهي لا توجد دائمًا حتى إن وجدت الأحزاب. يكثر أن يخطئ الناس بالنظر إلى الحزب كالأداة الأزلية للسياسة الحديثة أو كذراعها الخالدة. والحزب تم تبنّيه في أفريقيا كمجرّد أداةٍ أو صيغة أو تقنية، وتاريخيّتُه لم تُستَشْكَل أبدًا. ففي شكله المعاصر، انبثق الحزب بعد فشل كومونة باريس (1987) ونشأة الدول الإمبريالية.[31] ولا يسعنا هنا مناقشة التحوّلات والأزمة وانهيار الحزب وشكل الحزب. الواقع اليوم هو أنّ كلَّ حزبٍ يجسّد مشروعَ دولة. فلم تعد الأحزاب تنظيماتٍ سياسية سواءً كانت في سُدّة الحكم أم في المعارضة، فهي تقترح إلينا الدولة، الحكومة كالمرجع الحصري للوعي. والأحزاب في المعارضة، بدلًا من معالجة قضايا السياسة، تعمل في آخر المطاف لاستبدال الأحزاب التي في السلطة. وفحوى السياسة التقدّمية هو فصلُها عن الدولة. فليس من الممكن تحقيقُ دولةٍ ديمقراطية – أي: دولةٍ مرئيّةٍ من زوايا نظر الناس، لا مدمّرةٍ لها – إن لم «يفكر» الناس إلّا بالدولة، ويستبطنون الدولة، وبالتالي يفرضون رقابةً ذاتية.
السياسة توجد من خلال أنماط تاريخية، سواءً كان النمط الثوري لسان-جاست وَروبسبير، أو النمط البلشفي للينين، أو النمط الستاليني للأحزاب الشيوعية، أو النمط البرلماني للإجماع على سيادة قانون السِلعة. وفي أفريقيا، علينا العمل والنضال لأجل نمطٍ جديدٍ للسياسة.
في أفريقيا أيضًا، ستكون السياسة التحررية سياسةً بلا أحزاب، إنما عبر تنظيماتٍ سياسية. الصعوبة التي نواجهها تكمن في أن التصنيفات التي نستخدمها (التنظيمات الجماهيرية، المجتمع المدني، الحركات، إلخ) تصنيفاتٌ مرتبطة بالحزب. نقطةُ بدايتنا يجب أن تكون: في أفريقيا أيضًا، الناس تُفكِّر، وهذا هو الأساس المادي الوحيد للسياسة. علينا التحقيق في المحتوى الباطني لما يفكّرون به فعلًا. فعبر تحليلِ أشكال الوعي هذه سندرك أشكال الوعي السياسي التي تنطبع على الخصومة مع مجمل النظام الاجتماعي-السياسي القائم. والتنظيم السياسي – تستلزمه المعالجة السياسية (نقيض الدولتية) لمسائل السياسية – وحده قادرٌ على فهمِ أن للمجتمعات المعاصرة وضعانِ على الأقل: المصنعُ (بما في ذلك المزرعة والمنزل) كموقعٍ للسياسة، وثانيًا عمليّاتٌ تشمل كامل الناس في انحرافاتِهم عن الدولة. هذه العمليّات عمليّات تحكيمٍ سياسيٍّ، حيث يقع انحرافٌ عن الإجماع التوافقي التي يستأنسها روتين الدولة. وهذا يؤدي إلى إدراك أنّ السياسة التقدّمية تملك عدة مواقع وتعددية للعمليات: عمليّات محدودة المكان كما في المصنع، ومفتوحة (لكل) العلميات المشتملة على كل أصناف الناس دون منح امتيازٍ لأي منهم. العملية المفتوحة هي امبونغي موسّع، نوعٌ محدد من التجمع حيث يحصل بالافير – يحرُّكه المناضلون.
لن توجد السياسة التحررية، في أفريقيا، بمجرد وجود الأحزاب. فلأن الدولة-الحزب انهارت ولأنها ميتة سياسيًّا ولربما تاريخيًّا – حتى لو بقيت في بعض الأماكن – ها هي منظومة أحزاب-الدولة تطرُق أبوابنا. والتعددية الحزبية، في استبدالها الدولة-الحزب الواحد، لن تحسّن انبثاق الوعي السياسي، ولهذا السبب، فحتى الإمبريالية تحرّض على تصدير التعددية الحزبية (بجعل المعونة مشروطةً بها). وذلك ينعكس على الطابع التناقضي للحركة الأفريقية نحو الديمقراطية: المؤتمر الوطني أقرب لموقعِ السياسة من الأحزاب بكثير. هل ستقوّض تلك الأحزاب نجاح مثل هذه المؤتمرات؟
تعددية مواقع السياسة تدعو إلى بُنيةٍ تعددية. نحن بحاجة إلى لجنة عمّال (خليّة عمّال، نواة قائدة) في المصنع/المزرعة وليس نقابة حِرفية (يحددها ارتباطٌ بحزبٍ على نمطٍ ستاليني، أو بدولةٍ تحت منظومة أحزاب-الدولة) تقود عملية إلغاء المصنع كمنظومةٍ للاستغلال والاستبداد. وَوجود هكذا لجنة يسلط الضوء على حقيقة أنّ العمّال، كمجموعة، قادرون على صنع السياسة. ونحن بحاجةٍ إلى لجانٍ (تجمُّعاتٍ) شعبية، للجميع بدون تفضيلٍ لأي مجموعة على أخرى، ولسيرورات السياسة الأخرى: معالجةُ الناس للاختلافات داخل الديمقراطية-الشعب، ومعالجة الناس للاختلافات الكبيرة العديدة (العمل الفكري/اليدوي، الذكري/الأنثوي، المدينة/الريف، الصناعة/الزراعة، إلخ)، ومعالجةُ الناس لمسألة الهوية الوطنية (تاريخية المسألة الوطنية، والهوية المتعددة إثنيًّا، إلغاء المركزة الثقافية/اللغوية، إلخ)، ومعالجة الناس لمسألة السيطرة الإمبريالية، إلخ، مع مختلف المناضلين والمناضلات للأشكال السياسية هذه للتنظيم السياسي، هكذا معالجة ستخدم كمُفَوَّضيّاتٍ مسؤولةٍ عن المُثَقَّفيّة السياسية لنمط السياسة هذا. سأقول، إيجازًا، إن المناضل ليس ممثلًا لأي مجموعة، وهذا السبب الأساسي الذي يجعل المنهجية الأساسية لعمل المناضل هي أخذُ تصريحٍ علنيٍّ ليُحَققًّ فيه ويُتناظَر حوله في مختلف مواقع السياسة.
من خلال مخططٍ كهذا الذي لمحت إليه بإيجاز، تبقى منظورات الناس حول قضايا السياسة، بدلًا من قضايا الدولة أو الأحزاب، حيةً، ويمكن احتواء الدولة، وجعلها خاضعةً لمحاسبة الناس ومُدمْقْرَطةً. ويجب البدء باستهداف الضوابط الهادفة لتكميم الآراء السياسية للناس إن أريد لِسياسةٍ للديمقراطية والانعتاق الاجتماعي أن تنشأ. وإن كان يمكن للتعددية الحزبية أنْ تنجز هذا الاجتثاث لتلك الضوابط فالنضال لأجل تعدديةٍ حزبية، في انتِقالةٍ إلى نمطٍ جديدٍ للسياسية، يمكن دعمها تكتيكيًّا.
حاولتُ أنْ أبيّنَ أن الأنماط التاريخية السائدة للسياسة، التي تعيش اليوم في أزمة، عاجزةٌ عن حلِّ الأزمة السياسية العالمية التي نواجهها. فلفترةٍ طويلة، لربما منذ تجارة العبيد الأطلنطية، نَدُرَ أنْ كانت الشعوب الأفريقية مسؤولةً عن انعتاقها الذاتي، فقد أخضعت بدلًا من ذلك لـ «الأعمال الخيرية الغربية» (الإلغائيون، التبشيريون، والمستعمِرون، والمحضِّرون، والشركاء الاستعماريون الجدد في «التنمية» الأفريقية، إلخ). ودون نمطٍ جديدٍ للسياسة، قادرٌ على جعل الجماهير الواسعة من الناس مسؤولةً باستقلالٍ عن إشكالية الدولة (القمعية أو الأبوية/الشعبوية)، فنحن نتّجه إلى وجهةٍ أخرى: إلى أزمةٍ مُطوَّلَة. هذا الوعي ينبثق ويتطور عبر المشاركة الفاعِلة في تطوير ومعالجة سيرورات القضايا السياسية. وحينما تُعطَّل هذه المشاركة، فالوعي يستبدله استبطان منظور الدولة وما يترتب على ذلك من رقابةٍ ذاتية. الحزب، بشكله الحالي، عاجزٌ عن تحسين هذا التطوّر، وكذلك هي التعددية الحزبية التي تَختزلُ السياسة في مسألة أرقام. في هذه السيرورة لاسترداد شعور الجماهير الواسعة من الناس بالمسؤولية عن أنفسهم، يمكن إعادةُ تنشيطِهم وتوسعتهم، عبر التقاليد الأشبه بالبالافير والتجمّع حول النار (إمبونغي وبارازا) التي هاجمتها واستحقرتها ودمَّرتها الدول الاستعمارية والدول ما-بعد الاستعمارية على حدٍّ سواء.
هذه ليست إلّا تأملاتٍ أولية تهدف إلى خدمة مسائلِ ذات أهمية حيوية لبلداننا الأفريقية – وآمل أن يتم ذلك على أساس النقاش والتباحث.
المصدر: African Perspectives on Development.
الملاحظات
[1] هذه المسألة عولِجت بشكلٍ جيّد في:
Alain Badiou (1985), Peut-on penser la politique ? Paris: Editions du Seuil.
و
‘The “Crisis of Marxism” and some of its Implications‘, in Philosophy and Social Action, Vol. 16, No. 1, pp. 7-22.
[2] Sylvain Lazarus, Valerio Romitelli, Claudia Pozzana & Sandro Russo (1990), ‘Dialogue autour de Tien An Men : Les Entretiens de Bologne’, in Le Perroquet, Nos 86-87, March.
[3] المصدر نفسه.
[4] Sylvain Lazarus (1985), Peut-on penser la politique en intériorité? Paris: Les Conferences du Perroquet, No. 4, November.
Sylvain Lazarus (1988), La Catégorie de révolution dans la Révolution française Paris: Les Conferences du Perroquet, No. 15, March.
Sylvain Lazarus (1989), laine et le temps. Paris: Les Conferences du Perroquet, No. 18, March. Ibid.
[5] المصدر نفسه.
[6] المصدر نفسه.
[7] Paul Kennedy (1989), The Rise and Fall of the Great Powers. London: Fontana Press.
[8] Sheikh Anta Diop (1981), Civilisation ou barbarie? Paris/Dakar: Prisence africaine.
[9] أنظر:
Crawford Young (1984), ‘The Colonial State and its Connections to the Current Crisis in Africa’. Colloquium Paper, Woodrow Wilson International Centre for Scholars. Washington DC, 29 May. “Makidi-ku-Ntima (1983), ‘Class Struggle and the Making of the Revolution in Angola’, in Bernard Magubane and Nzongola-Ntalaja (eds), Proletarianization and Class Struggle in Africa. San Francisco: Synthesis Publications, pp. 119-41.
[10] تاريخ هذا التمرّد نوقش على نحوٍ جيد في:
Ludo Martens (1985), Pierre Mulele ou la second vie de Patrice Lumumba. Anvers: Editions EPO. Also: E. Wamba-dia-Wamba (1987), ‘Struggle for the “Second Independence” in Congo, Kinshasa’, in Utafiti, Vol. 19, No. 1, pp. 31-68.
[11] Achile Mbembe (1990), ‘Regimes en crise, pauvrete et insubordination generalisee: L’ Afrique noire va imploser’, in Le Monde diplomatique, April, pp. 10-11.
[12] Achile Mbembe (1990), ‘Regimes en crise, pauvrete.
[13] Bernard Dreano et al. (1989), Aufbruch 89, l’opposition démocratique Est-allemande par elle-même. Paris: Presse d’Aujourd’hui.
[14] Ali El-Kenz (ed.) (1989), L’Algérie et la modernité. Dakar: CODESRIA.
[15] تحليلٌ جيد لـ «الاشتراكية البيروقراطية» قُدِّمَ في مقالةٍ دون إمضاء:
La Lettre des secretaires de organisation politique. (Paris), No. 6, April 1990, pp. 3-4.
[16] Manning Marable (1989), ‘Beyond Stalinism and Social Democracy; Towards an American Socialism-from below‘, unpublished MS.
[17] هذه الاتكالية حللت بشكل جيد في:
Michel Beaud (1989), L’Economie mondiale dans les annees 80, chapter 6. Paris: Editions la d’couverte.
[18] أكِّدَ، مثلًا في الملاحظة 2، أن الصين ظلت بلدًا اشتراكيًا بسبب الوجود المستمر لحركاتٍ جماهيرية مستقلة.
[19] Maurice Brinton (1970), The Bolsheviks and Workers’ Control, 1917 to 1921: The State and Counter Revolution, London: Solidarity.
[20] J. Sakai (1983), The Mythology of the White Proletariat: A Short Course in Understanding Baby Ion. Chicago, I1.: New Publications List/CDL. Also, The Proletarian Unity League (1977), Two, Three, Many Parties of a New Type? Against the Ultra-Left Line. New York: United Labour Press.
[21] أنظر:
Journal de l’organisation politique No. 2, February 1986; No. 4, July 1987; and Redaction du Perroquet: Les Invisib es. Les Conferences du Perroquet, No. 10, March 1987.
[22] أنظر:
Henri Simon (1985), Poland: 1980-1982: Class Struggle and the Crisis of Capital. Detroit: Black and Red; Cyril Smuga, (1987), ‘A Year of Debates in Solidarnosc’, in International Viewpoint, Issue 125, 14 September; Wambadia- Wamba (1990), ‘Democracy in Eastern Europe: Preliminary Theses on Movements and Uprisings’, in Forward Motion, pp. 28-30, May.
[23] أنظر مختلف الأعداد المنشورة لـ Le Monde diplomatique منذ 1989، وأيضًا:
Le Monde diplomatique, du communisme riel a Pambition dimocratique, Manierc de voir 7, February 1990 and La Paix des grands, Pespoir des pauvres. Maniere de voir 4, February 1989.
[24] ظهر المفهوم، «الاشتراكية الدستورية» في الاتحاد السوفياتي.
[25] أشيرَ (الملاحظة 2) أن أغلب الجنود الصينيين رفضوا استخدام العدوان المسلح ضد الطلّاب، وأنّ السلطات اضطرت للإتيان بجنودٍ من منغوليا (لا يتحدثون الصينية) والجنود القدامى لحرب (العقاب) ضد فيتنام.
[26] E. Wamba-dia-Wamba (1990), `The National Question in Africa: A Colonial Legacy,’ in Southern Africa Political and Economic Monthly, Vol. 3, No. 4, February, pp. 30-5
[27] Jacques Depelchin has studied the ‘denationalization’ of the economy of Congo-Zaire – in: Congo-Zaire: How Belgium Denationalized the Economy. Dakar: CODESRIA, forthcoming.
[28] La Lettre des secretaires, op. cit.; pp. 1-2.
[29] سبق ودرست هذه النقطة في:
Experiences of Democracy in Africa: Reflections on Practices of Communalist Palaver as a Social Method of Resolving Contradictions among the People, unpublished MS, 1987, in French: E. Wamba-dia-Wamba (1985), ‘La Palabre comme pratique de la critique et
[30] K. Kia Bunseki, Fu-Kiau (1985), Mbongi: An African Traditional Political Institution. Roxbury, MA: Omenana.
[31] Sylvain Lazarus, Unine et le temps, op. cit.